في المقارنة مع قانون «كل ما من شأنه»
سعيد بعزيز
في سياق النقاش الدائر حول مشروع قانون رقم 22.20 يتعلق باستعمال شبكات التواصل الاجتماعي وشبكات البث المفتوح والشبكات المماثلة، أو ما يسمى بمشروع ترسيم الكمامات على طول، أو مشروع تكميم الأفواه، وتسجيل مواقف متباينة بشأنه، معظمها تهدف إلى التراجع عنه، علق البعض بوصفه قانون كل ما من شأنه، في ظل مغرب دستور 2011، وهو أمر مستبعد إلى حد كبير.
إن مجرد التفكير في التراجع عن المكتسبات التي حققتها بلادنا في المجال الحقوقي، يعتبر انتكاسة حقيقية، والمرجعية الحقوقية الاتحادية في الدفاع عن الحريات العامة والفردية، ثابتة وغير قابلة للتغيير، لا يمكن أن تقبل بالمسودة الرائجة لتصبح مشروعا وبالأحرى قانونا يلجم حرية الفكر والرأي والتعبير.
لكن أن يذهب الأمر إلى وصفه بقانون كل ما من شأنه، أعتقد أن الأمر بعيد كل البعد، ولا مجال للمقارنة، فهذا القانون هو ظهير يتعلق بزجر المظاهرات المخالفة للنظام العام وبردع ما يمس بالاحترام الواجب لولاة الأمر، الصادر بتاريخ 29 يونيو 1935، والذي يحمل توقيع محمد المقري بعد تسجيله بالوزارة الكبرى، وأذن بشره الكومسير المقيم العام هنري بونسو، مما يعني أن هذا القانون المكون من ثلاثة فصول، والمكتوب بشكل فضفاض يمكن من استعماله في كل ما من شأنه، قانون ذو نفحة استعمارية محضة، تماشيا مع ما قامت به الحكومة الفرنسية من تدبيرات في ممتلكاتها ومستعمراتها والمتعلقة رأسا بسلطتها، وبالتالي حفظ النظام واستتباب السكينة والأمن في المغرب بتعاون صادق أمين مع الدولة الحامية، وهو ما تم تضمينه في بيان أسباب صدور هذا النص.
وسبب تسميته بقانون كل ما من شأنه، هو سهولة ومرونة تأويله وتطبيقه على كل الأفعال والتصرفات التي لا تروق الحكومة الفرنسية، من أجل تمكين السيطرة على البلاد، والمخالفة المتضمنة فيه تتعلق بكل من حرض بأي محل كان وبأية واسطة كانت على المقاومة الفعالة أو الهادئة لإجراء العمل بالقوانين أو القرارات أو الضوابط أو الأوامر الصادرة من السلطة العمومية وكل من يحث على الإقلاق وتشويش البال أو على المظاهرات أو كان هو المسبب لها وكل من قام بعمل محاولا به تعكير صفو النظام والسلامة والأمن يعاقب بالسجن من ثلاثة أشهر إلى سنتين وبغرامة من 500 فرنك إلى 2000 فرنك، أو بإحدى العقوبتين، إضافة إلى إمكانية الحكم بعقوبة المنع من الإقامة في بعض الأماكن، وإن كان المخالف موظفا أو مستخدما فيجوز أن تضاعف عقوبته ومنعه من مباشرة وظيفة ما. مع الإشارة إلى أن هذا النص فسر المقاومة الهادئة بإظهار مجرد معارضة وعدم الامتثال للأوامر.
والغاية من هذا القانون، كانت متضمنة فيه، ألا وهي عبارة “وكل من أتى بما يمس بالاحترام الواجب للحكومة الفرنسوية أو الدولة الشريفة تجرى عليه نفس العقوبات المشار إليها”. مما جعل مجرد تشويش مسؤول أو انزعاجه من شخص ما يجره إلى السجن، حيث طبق بشكل موسع قصد ترويض المناهضين للسياسة المتبعة آنذاك، إلا أنه مع فجر الاستقلال قطعت بلادنا مع هذا القانون سيء الذكر، وتحديدا في سنة 1958، حيث أصدرت مجموعة من النصوص لها ارتباط مباشر بالحريات العامة، من بينها ظهير 377.58.1 بشأن التجمعات العمومية وهو القانون الذي لايزال معمولا به إلى يومنا هذا بعدما أدخلت عليه بعض التعديلات، بموجب ظهير بمثابة قانون رقم 284.73.1 بتاريخ 10 أبريل 1973، والقانون رقم 76.00 الصادر بتنفيذه ظهير رقم 200.02.1 بتاريخ 23 يوليو 2002، إلا أنه تبقى أهم التعديلات هي تلك التي أدخلتها عليه حكومة التناوب.
وبالوقوف على مضامين الدستور، حيث أكد في تصديره على جعل الاتفاقيات الدولية، كما صادق عليها المغرب، وفي نطاق أحكام الدستور، وقوانين المملكة، وهويتها الوطنية الراسخة، تسمو، فور نشرها، على التشريعات الوطنية، والعمل على ملاءمة هذه التشريعات، مع ما تتطلبه تلك المصادقة؛ وأنه يُشكل هذا التصدير جزءا لا يتجزأ من هذا الدستور. وإن كان قد اشترط الملاءمة والهوية الوطنية، فهذا الأمر تجاوزه اعتبارا لكونية حقوق الإنسان، كما أن الفصول من 19 إلى 40 منه تضمنت الحريات والحقوق الأساسية، إذ جاء في الفقرة الأولى من الفصل 25: “حرية الفكر والرأي والتعبير مكفولة بكل أشكالها”، والفقرة الثانية من الفصل 28 “للجميع الحق في التعبير، ونشر الأخبار والأفكار والآراء، بكل حرية، ومن غير قيد، عدا ما ينص عليه القانون صراحة”، والفصل 29 “حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات، والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات؛ حق الإضراب مضمون. ويحدد قانون تنظيمي شروط وكيفيات ممارسته”، ولتأكيد أنه لن تتم مراجعتها سلبيا في المستقبل أثناء مراجعة الدستور، واعتبارها الحد الأدنى وكل تجويد أو تغيير في هذا النص الدستوري ينبغي أن يتجه نحو الأفضل، نص في الفصل 175 على أنه “لا يمكن أن تتناول المراجعة الأحكام المتعلقة بالدين الإسلامي، وبالنظام الملكي للدولة، وبالاختيار الديمقراطي للأمة، وبالمكتسبات في مجال الحريات والحقوق الأساسية المنصوص عليها في هذا الدستور”.
وبصيغة أخرى، لا مجال للتراجع، واعتبار النصوص الصادرة احتراما للدستور، نصوصا مشابهة لقانون كل ما من شأنه، فنحن في بلاد ذات سيادة كاملة، اختارت بناء دولة يسودها الحق والقانون، ولو كانت ترغب في الرجوع إلى القانون المذكور، ما كانت لترفق المادة الرابعة من مرسوم بقانون رقم 2.20.292 بتاريخ 23 مارس 2020 يتعلق بسن أحكام خاصة بحالة الطوارئ الصحية وإجراءات الإعلان عنها، التي تنص على معاقبة مرتكبي مخالفة الأحكام المتعلقة بالتقيد بالأوامر والقرارات الصادرة عن السلطات العمومية بشأن حالة الطوارئ الصحية بالحبس من شهر إلى ثلاثة أشهر وبغرامة تتراوح بين 300 و1300 درهم أو بإحدى هاتين العقوبتين، بشرط أساسي في المادة الثالثة منه، مفاده اتخاذ جميع التدابير بموجب مراسيم ومقررات تنظيمية وإدارية، أو بواسطة مناشير وبلاغات. ولم تدعه مفتوحا للتأويل والتطبيق في كل ما من شأنه، بل اشترطت أن يكون الأمر أو القرار معلنا عنه من قبل بطريقة محددة.
فاليوم، لابد من القول إن دستور 2011 متقدم، سيما في المجال الحقوقي، إلا أن القوانين المرتبطة به ظلت جامدة، وهو ما ساهم في التضييق على العمل النقابي وإفراغ الحوار الاجتماعي من محتواه، وأدى إلى تراجع الإضراب باعتباره حقا مكفولا دستوريا بعد لجوء الحكومة السابقة إلى الاقتطاع من الأجور بإتباعها مقولة “الأجر مقابل العمل”، وكان وزير العدل والحريات آنذاك من السباقين إلى تنفيذها والتبجح بها، منتشيا في قمع المحتجين، لتتنامى هذه الظاهرة البئيسة، تماشيا مع السياسة اليمينية التي تعادي العمل النقابي وحقوق الإنسان الكونية والديمقراطية، وهو ما يكشف وجههم الخفي ونواياهم السيئة في تصرفاتهم اليوم.
إنه مهما كانت قوة ودرجة المواجهة اليمينية للفعل الحقوقي، فإنه لا يمكن التطاول على الحق في الاحتجاج إلا بتنمية اقتصادية واجتماعية وثقافية حقيقية وحكامة المؤسسات ومراجعة المنظومة القانونية وبناء مجتمع ديمقراطي تسوده المساواة والكرامة والعدالة الاجتماعية، والقول بأن التطور المتصاعد لتقنيات الاتصال الحديثة بات يطرح العديد من التحديات والرهانات، لا يسمح بالتراجع عن المقتضيات المنصوص عليها في المعاهدات والمواثيق الدولية والتي تعتبر التجمع والتظاهر والاجتماع، وإشراك عامة المواطنات والمواطنين في الحياة العامة، معايير أساسية في مسار بناء الأنظمة الديمقراطية، وهي حقوق مكفوله ومعترف بها لكونها من أبرز معايير ومؤشرات قياس مدى احترام الأنظمة لحقوق الإنسان.
إن الإيمان باحترام الديمقراطية وحقوق الانسان واحترام دور الهيئات باعتبارها أركانا أساسية من أجل البناء الديمقراطي والتنموي والرقي بالبلاد، لا ينبغي هدمه بمجرد الانتقال من الاحتجاجات ذات مطالب اجتماعية إلى احتجاجات بمطالب سياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية، ومحاولة التعاطي مع ذلك بالزجر، كما أن المسودة المطروحة للنقاش، رغما عن رئاسة الحكومة، لابد أن تأخذ بعدا تشاركيا، وتكريسا حقيقيا لما حققته البلاد في المجال الحقوقي.
فلا مجال للحديث عن قانون كل ما من شأنه، ولا مجال لتجريم التعبيرات المرتبطة بحرية الفكر والرأي والتعبير، لكونها مكفولة بكل أشكالها.
الكاتب : سعيد بعزيز - بتاريخ : 02/05/2020