«في انتظار البرابرة» : هل يمكن للكاتب أن يكتب وماذا وكيف؟

أحمد المديني

 

لست في حاجة إلى مقدمة، إلى مداورة وتحايُل على هذا الموضوع، ولكتابته، رغم أني لا أعرف مسبقًا بوضوح ما سأدوّنه في هذا المقال، فأنا محتفظًا بكامل عقلي ونسق تفكيري، ذلك الكاتبُ الذي يكتشف أفكارَه وهو يمشي بتؤدة بين السطور، وأحيانا على غير هُدى، ولعلكم ستوافقونني، وتعذرونني، أيضا، لافتقادي البوصلة، وأيّ كاتب غيري، في هذه الأيام العصيبة، اختلّ فيها عيشُنا واهتزّ مصيرُنا ونرى فيها شعبنا وأمتنا جمعاء عرضةً للمحن وفي قلبها اليوم فلسطين أبناؤها على مطحنة القتل بل الإبادة وما تبقى من ديارها هدفا للدمار.
نحن اليوم في حرب، أعني ذلك الشعبَ الأعزلَ في الأرض المحتلة بالضفة الغربية وقطاع غزة. أرضُه محتلةٌ منذ النكبة الشنيعة التي تعود إلى عام 1948، وتواصلت منذئذ تتلوها وتتراكم فوقها النكبات تباعًا وفي طريقها العسير المليء المحفور بالتشرد والمنافي والعيش الأليم تحت الاحتلال تخللت أطيافُ أحلام العودةِ والحلِّ من أجل دولةٍ واسترجاع بعضِ وطن، وقليلٍ من العيش في هذه الحياة مثل سائر البشر ببهجة، رغم القسوة ومرارة اغتصاب الأرض وللاضطهاد اليومي للمحتل، ألم نعد نردد جميعًا ما قاله محمود درويش لسانُ الوجدان الفلسطيني» في هذه الأرض ما يستحق الحياة» نحن الذين في رفاهية الاستقلال والسّلام.
لم أشارك في أيّ حرب، وإن شاهدت في المكان نهاياتِها وآثارَها وعواقبَها، في العراق ولبنان، وفلسطين، أيضا، وهي ليست التاريخَ ولا الكلامَ وما يسرده الروائيون ولا استعاراتُ الشعراء، لذلك قال زهير بن أبي سلمى» وما الحربُ إلا ما علمتم وذُقتم/ وما هو عنها بالحديث المُرَجَّم». لكني مثخنٌ بجميع الحروب التي خاضتها البشرية ضدّ بعضِها في مواجهات قاتلة من أجل التوسّع والثروة والمجد والجبروت، وذهب ضحيتها الملايين كي يسود الطغاة مثالٌ لهم هتلر بنازيته الشنعاء. ثم نصيبنا نحن شعوب العالم الثالث العرب منها هاجمنا الاستعمار باحتلال بلداننا ونهب ثرواتنا وسلخنا عن ثقافاتنا وسخّرنا لحروبه الاستعمارية البعيدة، وكذا وكيت.
رغم أننا لم نقاتل، ولا استبسلنا في أيّ جبهة، فنحن، في المغرب، جيلٌ تكالبت عليه الحروب، ونحن طلاب في الستينيات تفجّرت في رؤوسنا القنابل التي سقطت على مصر والشرق الأوسط ووجدنا إسرائيل تهزمنا في ما سُميَّ نكسةَ وهزيمة حزيران 1967 وكأننا كنا منتصرين، ولم نعرف نحن طلبة» ظهر المهراز» تنظيم الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، أين نمضي ولا كيف نصرّف غضبنا سوى بمزيد من المرارة والحُرقات، وكان أن تكسرت نصالُ الداخل على نصال الأعداء. وحين كانت القوات الأمريكية تبيد الشعب الفيتنامي وتحرق بالنابالم الفيتنام، شعرنا أننا نُقتل معه لأننا معادون للأمبريالية ونحلم بالاستقلال والاشتراكية لجميع الشعوب.
ثم إن جيلنا، الأجيال العربية كلها، سواء من قاتل منها (مصر سنة 1973 في العبور العظيم، وفي لبنان إبان الاقتتال الداخلي، ثم العراق في حربي الخليج الأولى والثانية بأكذوبة توفره على أسلحة الدمار الشامل، أضف الهمجيات الإرهابية للمنظمات المتطرفة بعديد أسماء)؛ نحن لم نعرف حياة سلميةً حقيقيةً وتداولتنا الأعوام في سلام مغشوش، إذ كانت حروبٌ دائمةٌ مُسلطة على الشعوب بالاستبداد والقمع والحرمان، ما أكثرَها وأمضَّها، لا، لن أنكأ الجراح. وفي القلب منذ1948 وعلى امتداد عقود تعيش فلسطين تحت وطأة حرب طاحنة، بسلام ملفّق والعالم المتحضِّرُ المزعومُ الذي سلّم الأرض ما انفكّ يتفرّج ونحن وإيّاه اليوم أمام المجزرة.
وأتردد عن الحديث باسم جيل الحاضر، ليس من حقي مصادرةُ رأيه ومشاعره وخطابه، ما لا يمنعني من القول لمعرفة وثيقة، ففيه أبناء وأقارب وطلبة على مدار أعوام طوال وأصدقاء أيضا، أن هذه الحرب التي تشنها إسرائيل على فلسطين بمساندة مطلقة من القوى الغربية وتشريعها لها حق قتل المدنيين؛ أقول قد ضربت هذا الجيل في السُّوَيداء، شعُر القسم الذي تكوّن بثقافة الغرب وتشبّع ولو فكريًا بمبادئ حقوق الإنسان والقيم الكبرى للإنسانية، وجعل منها منظوره للحياة وإصلاح أعطاب مجتمعه المختلفة، أنه تعرّض لخديعة كبرى شطرت معتقداتِه وفكّكت هويته فلا يعرف على أي قدم يقف أو يرقص، فشبابنا مهما قيل عنهم من أوصاف مجحفة أبناءُ أوطانهم وأمتهم، وها هم ضحية جديدة لما ظنوه ملاذًا وأداةَ تغيير.
الآن، الحرب دائرةٌ وستستمر، تقول إسرائيل ومعها» مجتمعها الدولي» إنها مشروعةٌ وإنسانيةٌ من أجل الدفاع عن نفسها، كلاهما معترِضٌ على وقفها إلى أن تحقق أهدافها المعلنة، وأفضل ما يمكن أن يتوقعه فلسطينيو غزة هو فتح ممرات لنجدتهم بالغذاء والماء تحت وابلِ قصف لا ينقطع وجثث نساء وأطفال تترامي فوق وتحت الرّدم أشلاء. أنا بصدد إعادة كلام وتعليقات تلوكها على مدار الساعة وكالاتُ الأخبار والقنواتُ، صارت معتادةً وبورصة الدم تعلو بنماء. في نهاية الحرب العالمية الأولى عمل همنغوي سائق سيارة إسعاف، ثم صحفيًا بالأناضول خلال حرب اليونان وتركيا. الشاعر أبولينر والروائي فردناند سيلين ذهبا إلى الحرب مجنّدَين مثلهما قليل من الأدباء العرب، أغلبهم كتبوا عن الحرب بعد أن وضعت أوزارها، لا قبل.
ماذا يستطيع كاتب ـ مثلي ـ أن يكتب أمام هذه المجزرة المفتوحة للفلسطيني، إزاء الدم العربي المسفوح، وأيّ قاموس ولغةٍ وأسلوبٍ واستعاراتٍ تصلُح وتُجدي إذ تفرِك عينيك أمام شاشات التلفزة من الشروق إلى الغروب وعَوْداً على بدء. الصّور صاعقة، مُفحمة، أبلغُ من لغات العالم كافة، أبجديةٌ جديدةٌ يعلمها القتلة الجددُ للبشرية وينبغي أن يتقنوها ليستحِقوا لقب المدنيّة والتحضّر وتلك المفردات والقيم الغثّة التي باتت تُشعر شعوبًا كاملة، محقورةً ومستهانة، بعد الغضب، بالغثيان، وإذ تشاهدهم وتسمعهم جالسين يتداولون بشأنها فهي ترى بقع قيْءٍ تنزّ من حواف الشاشات، وفوق وتحت الردم رؤوسٌ وأذرعُ أطفال خُطت ببقايا أسماء على الأشلاء.
أكتب ماذا؟ كيف؟ لا أريد أن أكفر بـ» اقرأ باسم ربّك الذي خلق» ربيّ الذي علّم بالقلم، وهذا أثمن وأجلّ ما أومن به وأملك. لكن يا رب العالمين أعنّي أرني لأيّ غرض وبأيّ معنى أصوغ عباراتي، والحال ما ترى، هذه القائمة المرعبة من الشهداء، من أين آتي بصفةٍ واحدةٍ عن قتل وليد في شهره الأول، وطفلٍ مات وهو جائع، وبكر هيفاء يختطفها الموت بدل حضن الحبيب. لم يبق لي إلا كفافيس، سأستعير منه شكل قصيدته» في انتظار البرابرة» وأقول إني لا أنتظر شيئا من مجلس الشيوخ ولا سنّ القوانين، والبرابرةُ حتما قادمون وليسوا هم الحلّ، ستمشي دباباتهم على أجسادنا، وسنواجههم بقائمة الشهداء، بأمٍّ تستشهد مع وليدها أوان الطلق، وزوجها من لُجّة دمِه يُنشد للسموأل:» إذا مات منّا سيّدٌ قام سَيّدُ/ قَؤول لما قال الكرامُ فعول».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 01/11/2023