فُصوصٌ بين ميقات البلابل، وسعادة الببّغاء

أحمد المديني

سأكفيكم هذا الأسبوع ضجيج العالم، وأدعوكم معي لنخب معتق من سُلافة الروح والأيام.ألتقي بهم في الصبيحة كلما أمكنني الذهاب إلى مقهى مجاور لبيتي لشرب قهوة الصباح. عادة، تكون الساعة العاشرة. أراهم قادمين من رأس الزقاق يسبقهم زعيقهم يفتح الطريق. يخرجون من المدرسة فريقا واحداً لوقت الاستراحة مدتُه ربعُ ساعة عيّرته لاحقاً بين ذهابي وإيابي. مثل فرقة جنود يتقدمون طليعتُهم معلمتُهم نحو حديقة تتوسط الحيّ حيث يلعبون ويمرحون. صرت أوقِّت خروجي إلى مقهاي باستراحتهم، أو يتّفق لي ذلك صدفة. نتقاطع في الطريق فأفسح لهم، فيمرون تِباعا أمامي لا يبالون بي ولا بأيّ شيء، عدا أنهم يتقافزون ويتعابثون. أتركهم ورائي يلِجون حديقتهم وأمضي إلى مقهاي تسبقني لهفتي وبدء حساب لنهار جديد. حين تحلّ العطلة أعبر الزقاق كأني أعبر الفلاة، قفرٌ هو وصمتٌ مطبقٌ، ولا هم يعبثون. الحديقة في الوسط موحشة، ومُجسّماتُ اللعب في أركانها ساكنةٌ حزينة، والأشجارُ كأنها في حِداد. وإذ تنتهي العطلة يعودون إلى الاستراحة، يخرجون من المدرسة في العاشرة ويصلون إلى الحديقة نتقاطع معاً لدى عبوري إلى المقهى ورغم أنهم لا يبالون تعود الحياة.
كنت وبقيت أظنني وحدي من يلتقي بهذه البلابل. بمفردي يتقاطع سبيلي بعبورهم وقت الاستراحة. أنانيتي ربما أو غفلتي أنسيانني أن الحيّ مليء بالعجائز وبالمتقاعدين، مثلي، هم أيضا يخرجون للتسوّق أو طرداً للضجر، أو بحثاً عن أنيس من وحدة هي هنا قاتلة. منهم من كنت أصادفه، آخرُ يشربُ مثلي قهوته، ثالثٌ ببطءٍ يتعكّز على تسعينيته، رابعةٌ تلتمس العذر لنفسها لشراء أيّ شيء كي تقتل الوقت ليس إلاّ، وأنا أظل أتذرّع بالقهوة، أبحث عن العبارة.
هم مثلي، أيضا، ربما أكثرُ مني كانوا يسـتأنسون بعبور البلابل، ومن رأس الزقاق يأتيهم التغريد فيُنيلونَه أذنا غيرَ واعية، وفجأة يسمعون وترا في القلب يرِنّ، ومن العين تفلت صورة عمر غابرة؛ عندئذ ينتبهون إليهم ملءَ الجوارح، تنفرج عندهم أساريرُ مجعّدةٌ، وتمتلئ المحاجرُ بدمع نفَد. حدث أني وأنا في طريقي صباح اليوم إلى المقهى كالعادة على توقيت البلابل أن فوجئت به، أبهرني دفعة واحدة، وسلاّني طارداً حزن عجائز أخاف أن ألتقيهن شرّ طردة. كانت البلابل تقصد الحديقة من رصيف وهو قادم باتجاهها من الرصيف المقابل. رغم كِبَر سنه اخترق صوتُه زقزقاتِهم العالية تُغطّي الفضاء المحدود حولنا فعلا أقوى منهم صوّبه باتجاههم سهما نافذاً اخترق طبلتي في الصميم:!Bande de paysans(ياعصابة البدو!). كانت هذه بالطبع شتيمة ممازحة، خاصة والصوت انطلق محمولا على نبرة مُموْسقة ساخرة، وهكذا فهِمها البلابل، لم يتوقفوا لكنهم التفتوا جميعا كأنما صدرَ إليهم أمر من جهة الرجل العجوز وردّوا جماعياً بنبرة مرحة، لكن بعبارة دفاع عن النفس قاطعة:On n’est pas des paysans (لسنا بدوا!) وواصلوا مسيرتهم الصباحية نحو الحديقة والرجل ذاهب إلى حيث سيذهب، لا أحد يعبأ بأحد. بلى كان الجميع يعبأ بالجميع إنما في صمت وبالعادة والصدفة. كنا نفعل هذا كل صبيحة وسنظل ما دامت البلابل تغرد ونحن عابرون لا نبالي بالبوموالسّعار.
أجل، ففي عالم مليء بالكَذبَة والأكاذيب، بالزّهو المدَّعَى والطواويس، بأشباه الرجال، بالجوف، أعجاز نخل خاوية، بفكر وأدب كالأعلاف، لم يعد مهما ولا مطلوبا، أصلا، البحث عن الحقيقة، عن أي مصدر، فالأكذوبة مسحت الحقيقة والندى، تتمرغ في العطن ويفضحها الشذى. تعرفون العبارة: « ترك هذا العمل أصداء واسعة» بينا هو غير موجود بذاته ويلتحق القائلون بالصدى، مثل مريدين لشيخ قيل كان ومضى، ومن كثرة ما يتردد في آذانهم صوت يفترضونه، رغم أن فيها وقراً، يلهثون وراءه، يستحضرونه ويقيمون حوله حفلة زار، وتُطلق بخور وتُتلى في قبة الشيخ الأذكار، حيثما ذهبوا يلاحقهم ظلُّه شظايا ذكرى بالية؛ صدأ الصدى.
أجَلُّ منه، بالطبع، الصمت، تحتاج أن تعبر صراط الكلمات الحارقة، وتتلظى بنار العبارة، وعراك الزمن، وبلوغ حكمة الدهر، دعك من أي وثن،كي تصل إلى جلاله، يا لثرائه وهوله.. ولن تصل. نعم، الكلمات شموسٌ وأهِلّة تضيء ليل القلقين والمثقلين بأرق الوجود. الكلمات أهِلّةٌ وشموسٌ تضيء النهار، انشراح لصفاء النفوس. والآن، إذ كثُر اللغط، والهُراء والشطط، والحق والزور اختلط، انتبذت لها»مكانا شرقيا»، مكاناأرحبَ من الجغرافيا، وأفخمَ من البلاغة، لا يُسمع فيه نباح، هي تراتيل في معراج الأنبياء، ويحدث أن تستأنس بمُواء القطط.
بيد أن للوباء المستشري سلطانه، يغير الحياة إذ يتسلط بقراره، فلا نعود ما كنا، ولن نبقى، لقد أصبح العالم الذي عاشت فيه البشرية دهورا مملِا، وها نحن ـ بفضل الوباء، وكذلك سماجة بعض البشر وغبائهم ـ نكتشف قارة جديدة اسمها الصمت، بالاختيار أو الجبر، شارلي شابلان عرف قيمته فرفض أن يتخلى عنه في أفلامه، سُمّيت صامتة هو من أداها بأبلغ كلام. اليوم، إذ تكممت البشرية، وتباعدت الأجساد، وحلت الرِّيبة محلّ ثقة شبه منعدمة، بل الإنسان يخاف أخاه الإنسان، كأنه في غابة، الغابة ربما حيواناتها أرحم من وجوه تبتسم بأنياب حادة. في فرنسا دعا المجلس الصحي الأعلى مستعملي المترو، في تباعدهم، أن لا ينبسوا ببنت شفة تفادياً،لنقل (رذاذ) الكلام، أضمر رذاذ الحقد والضغينة، بينما الكلام صار لغة أخرى منذ تحول كافكا إلى حشرة، وشعر بطل سارتر روكنتان ب» الغثيان»،وثغاء الماعز يطغى، وسلّم الإنسان قدره لوكلاء. عموما لا أحد يتكلم في المواصلات، إما يقرأ، أو يستدرك نوما أو يحدق في لا شيء، فكل شيء أضحى لا شيء. لذلك، عند بعض ليس أفضل من أن نعيد الكلام القديم، اجترار القرار والمفهمة والكذب والصفاقة والمراوحة في الزمان والمكان إلى ما نهاية، بل وحتى الغباء، لم لا، فليس ثمة أفضل من سعادة الببغاء!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 10/02/2021