قدر المغرب التاريخي

مصطفى خولال

كاتبني كاتب صديق فرنسي غاضبا من بعض ما قرأه في مقالات لي، قال إنه لم يعد يفهمني، قال إني أنظر إلى المغرب من زاوية عاطفية يغلب عليها الشعور لا العقل، وتحكمها الميتافيزيقا لا الحكمة. وقال إن مغربا مطلقا يسكنني فلا يوجد إذن إلا كتصور مجرد بعيد كل البعد عن الواقع الفعلي للمغرب، وانتهى بالحكم على مقالاتي بأنها إذ تنطلق من الشعور والميتافيزيقا والتجريد، لابد أن تنتهي إلى نوع فريد من «التصوف السياسي». ختم بأني أستهين كثيرا بخصوم المغرب من جيرانه وأستصغر قوتهم وأستخف بحيلهم.
للصديق رأيه البرانى، ونحن نحترمه، ولنا رأينا الذي لا يمكن إنكار عصبيته، وهل توجد وطنية بدون عصبية.
قد يكون في رأينا ما يمثل توجها مثاليا ما، لكنها مثالية وطنية لا يمكن إنكار الحق فيها، علما أن كل الوطنيات هي مثالية، ليس خطرا حقا أن تطوق عقل هذا المفكر أو ذاك مثالية وطنية ما، الخطر هو أن تطوق عقل السياسي المسؤول، ألم يخطئ المغرب خطأ جسيما حين رفض «المذاكرة» مع المستعمر بخصوص استعادة أراض له ألحقها ذات المستعمر بأراضي الجيران، وذلك انطلاقا من مثالية «قومية» تعاملت بمنطق الأخلاق المبنية على التعاطف والمساندة المطلقة لحركة التحرير الجزائرية، ونعرف اليوم مثلما عرفنا بالأمس في أي اتجاه سارت وصارت الحكاية.
صحيح أن من يتابع مقالاتنا في سلسلتها الجديدة لابد أنه لاحظ أننا نركز عموما على القضايا التي تعني بلدنا خاصة، وإذا عرجنا على قضايا تبدو في ظاهرها بعيدة عن قضاياه فإنها في العمق ترتبط به ارتباطا غير مباشر، يهمنا في هذا وذاك أكثر ما يهمنا تعميق الوعي بقدر المغرب، وذلك انطلاقا من مبدأين أساسيين يوجهاننا على الدوام، يقوم المبدأ الأول على اعتبار المغرب بلدا لا حلفاء له، له من حسن الحظ أصدقاء تربطهم به، طبعا، مصالح اقتصادية وسياسية وغيرها. لكنه لا ينتمي عضويا لأي تحالف، إنه يقبل بالصداقات المصلحية، بالتعاون، بالمساندة المشروطة بالحرص على استقلالية المغرب. وهي الاستقلالية التي من سوء الحظ حرمته وتحرمه من التواصل باتجاه شرقه، وهذا ليس جديدا، ذلك أنه يعود إلى لحظة العثمانيين الذين نجحوا في حكم الجميع باستثناء المغرب.
إنه لا يحتاج كل من يعمل الفكر لتأمل الوضع التاريخي الذي يخص المغرب إلى أكثر ما يمكن من التعمق كي يدرك أن المغرب القديم انتهى منذ قرون. لكن البعض، ومنهم مع الأسف كتاب (وحتى صحفيون بالرغم من أن كبار هؤلاء يتوفرون على المعطيات والمعلومات) من أسرتنا الفكرية، يهاجمون المغرب الحالي انطلاقا من تصورات ذات علائق بمغرب انتهى منذ عقود طويلة. تصورات هي في جوهرها لا – تاريخية، لأنها تحتفظ بزمن مغربي ثابت. إن المغرب القديم في كثير من مظاهره انتهى، تلاه مغرب جديد يمكن الرجوع ببدايته إلى العام 1959 حيث تشكل على نحو خاص بل وبمضمون متفرد. انتهى المغرب الذي كانت تحكمه أحيانا الفوضى. مثلما انتهى المغرب الإمبراطوري، الذي كان يحكم جهات واسعة شمالا وشرقا وجنوبا. في العهود الإمبراطورية لم يكن المغرب يحتاج ولا هو كان مضطرا للبحث عن حلفاء، كان يبني قوته الذاتية من خلال مقاومته لغزوات الأجنبي، بل أن دولا فيه نشأت بدافع مناهضة الأجنبي الذي كان يأتي في الغالب الأغلب من الشمال: تاريخ المغرب يقدم المثال تلو المثال على صحة ما نذهب إليه.
لقد كان بإمكان المغرب أن يوجد ضمن تحالف جهوي يضم إسبانيا والبرتغال وموريتانيا والجزائر وتونس وليبيا. ويكون هم هذا التحالف تنمية بلدان التحالف واستثمار الخيرات المشتركة وخدمة إنسان البلدان السبعة هاته، ومحاربة الجريمة العابرة للقارات بكل أنواعها، ولكن هذا غير ممكن، لا يمكن لك أن تتحالف مع من يحتل مدنك، ومع من يريد أن يجتزئ جزءا كبيرا من أراضيك وشعبك ويقيم فيها دويلة مصطنعة، ويفصلك عن امتدادك الطبيعي ذي المدى الضروري، الجغرافي والتاريخي معا. ومن جهتك أنت، لا يمكن لك أن تقفز فوق الحدود الجغرافية الصلبة التي يتشبث بها جار مازال حبيس عقل متحجر، عقل تصورات الحرب الباردة في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، عقل متكلس يرفض مهما عقلته التزحزح قيد أنملة عن أوهامه، بل إن الوهم السياسي أضحى ومنذ حرب الرمال إيديولوجيا جديدة يتغذى عليها صباح مساء. وهو من هذه الزاوية جار مسكين يستحق الشفقة. انظر إليه في قضية الوحدة الترابية للمغرب. هناك انفصام تام بين نظامه وأطروحاته بخصوص مغربية الصحراء، وما يعتقده الشعب الجزائري في عمومه ..يعتقد اعتقادا راسخا بأحقية المغرب في صحرائه وبصواب مواقفه بالرغم مما فيها من تنازل وصل إلى حد القبول بحكم ذاتي لجزء من ساكنته.
هذا هو قدر المغرب، وليس له فيه خيار.
وهو القدر المغربي الذي نؤمن أنه يصعب على صديقنا فهمه، ومن ثمة يصعب عليه تمثل صوفية Notre patriotisme.

الكاتب : مصطفى خولال - بتاريخ : 03/08/2021