كاتب يّذكّرنا بما نسيناه: أن الأدب قضيةٌ، أيضًا

أحمد المديني
George Orwell(1903ـ1950)عاد من جديد ملء السمع والبصر، يعاد طبع رواياته، وتصدر عنه الدراسات والمجلات المتخصصة، الحاجة ماسّةٌ إليه في زمن التسليع الثقافي وضياع القيم الكبرى التي كرس لها الكتاب أعمالهم، وهذه قراءة ـ نص عنه من قلب نصِّه*.
يستيقظ جورج أورويل، صباح يوم الاثنين ثاني أكتوبر 1946، بعد أرقِ ليلةٍ في رأسه كلمات صامتة تقول إن العمرَ قصير، والهمومَ كبيرة، والزمنَ ثقيلٌ. يحتاج إلى أعمار ليعبّر عن أحاسيسَ تجيش في خاطره، تضرب دماغه، ولكنه، في هذا اليوم، مع مطلع الخريف أيقن أن الكتابة أضحت قدرا لا فكاك منه، ليقتصّ للبشرية من الحرمان؛ في هذا اليوم حاصره السؤال: لماذا أكتب؟ ينتظره عملٌ إداري لكنه يقرر تأخير المغادرة. يُطِلُّ إلى الخارج حيث يتقاطع زقاق العمارة مع زقاق مخبزة الحي، ثم ينكفئ إلى هواجسه، يبحث عن حلم يُراوده حين يتساءل بحَيرة ما ينبغي أن أكتبه، وكيف، وفجأة يستيقظ، يسأل متوتراً: ترى لماذا أكتب؟
يكون جورج أورويل قد انتبه أن الصباح بدأ يتمدد، وهو يتعثر بين فكرة برقت في رأسه ليلة أمس، عن قصة ذات أهمية قصوى لحياته، ومستقبل بلاده، وربما البشرية، وبين أن ينصرف إلى أعمال مباشرة لعيشه، وإلى موعد مع ناشر، ثم بين فواتير لا تقبل التأجيل، لا مال له الآن، ربما يملكه إذا أنجز شيئا مهما في يومه، يعلم أنه يملك طاقة قوية، ربما تجلب المال، ليواصل الكتابة، والدفاع عن قضايا يؤمن بها، هذا يكفي مؤقتا، إنما، ويباغته السؤال: كيف تكون هذه الكتابة، كيف؟
يكون أورويل قد قطع مسافة صباحية اعتاد عليها، وفي سيره صباح الاثنين هذا، يرى بَشَرَ لندن يركضون، يُلِحّ عليه سؤالٌ أجّله مرات: ماذا كنت ستعمل لو لم ترتبط حياتك بالكتابة؟ طبعا يعرف، ولكنه يريد أن يغوِّرَ الموضوعَ ليعطي لكل قضية معناها ويصوغها في حُسن مبناها، رغم أن العالمَ ذاهبٌ حوله نحو الأسوأ. خطوات إضافية تقوده إلى مكتبته المعتادة ليقتني كتابا يحتاجه لهنري ميللر، يعنيه جدا هذا الكاتب الاستثنائي، من جعل من السالب بطولة، لأن السالبين، وغير المصنَّفين، هم من يملؤون الحياة. يفكر، وقد خاض تجارب شتى، وكتب في كل ضرب ولون؛ بات لزاماً عليه أن يحدد للقراء ولنفسه، لماذا كتب، يكتب؟
كجالسٍ في صالة سينما تتابعت مشاهدُ حياته أمام ناظره شريطا. بدءاً من الطفولة، يوم كتب قصيده الأول في سن الخامسة، ومساهمتَه في صحف مدرسية، وأول قصة تسجل أحاسيسَه ثم أفعالَه. في السادسة عشرة اكتشف متعة ترانيم الكلمات وتراكيبها. أما إذا أراد أن يحدد الأسبابَ بدقة فعليه أن يغادر قاعة العرض ليتأمل وبتركيز مجموع ما كتب، وضمنَه نفسُه الملتهبةُ وسعيُه لكسب عيشه كالجميع. آه، سيقول، كثيراً ما ينسى الناسُ هذا المكوّنَ عند الكاتب ويريدونه خالصاً من الغرض، يسقِطون عليه حاجاتِهم وحُرقتَهم وأوهامَهم. ثمة ما هو أكثر وجاهة من طلب العيش.أحببتم أم كرهتم فالناس في غالبيتهم الساحقة أنانيون، وسرعان ما يتخلون عن الطموح. إلى جانبهم فئةٌ قليلةٌ موهوبة، مصممةٌ على أن تعيش الحياةَ ملئَها. إليها ينتمي الكاتب. رأيي أن الكتاب الجديرين بهذا الاسم عموما مغرورون، وذواتُهم بؤرتُهم. أفكر أني كتبت لإرضاء أنَويَّة خالصة،لأصبح محطّ الأنظار، لأترك بصمةً في الحياة، وكذلك للانتقام ممن تعالوا عليك في الصغر. ما الكتابُ وحدهم في هذا، فالفنانون والعلماء والسياسيون والصناعيون، كل نخبة البشرية تشترك في هذه الخصلة .
ثمة حاجة أخرى تلح عليه دائما، أن يُكمل ما يراه دائما ناقصاً، في قلب هذا تقع معادلة الجمال، ما يسميه الاحتفاء الجمالي، ممثّلاً في إدراك جمال الخارج، أو بهاء الكلمات وترابطها. أضف الرغبة في تقاسُم تجربة مع آخرين . يعي وهو في خريف العمر، وانكسار كثير من الأحلام، وخفوت مطامح تغيير العالم حوله نحو آخر عادل ومختلف؛ أن لاشيء يعدل استشعار متعة تلاقي النبرات، وكثافةَ سرد جيد، أو إيقاع حسن. ولولا ظروف صحية وحاجته للكدح باستمرار لجاءت كتابته أفضل بكثير، وأغزرَ.ارتمى جورج على أول كنبة في مدخل الصالون وفكّر. بعد تجواله وتجاربه في الكتابة التي هي عاصمتُه العظمى: كتاب حياته المفتوح على ذاته، مشتبكةً بحياة تغلي بمهضومي الحقوق، الذين هم بلا مرتبة، وهذه عنده مرتبة للكتابة، وانتقل إلى منضدته ليدوّنها:» إن ما يدفعني للكتابة هو رغبة رؤية الأشياء كما هي، واكتشاف حقيقة الوقائع، والاحتفاظ بها للأجيال القادمة». يعُبُّ الهواءَ قليلا ثم يستأنف: «رغبتي لدفع العالم نحو وِجهة معينة، بتحوير الفكرة التي لدى الآخرين عن نوع المجتمع الذي يستحق الكفاح لإقراره، لذلك فلا يوجد أيّ كتاب خلو من نيّة سياسية.»؛ وتنفس أخيرا بهدوء.
ثم إنه لم يكن ليضع سطرا واحدا لولا إيمانه بما يكتب، منذ سنة 1936 وهو يكتب ضد التوتاليتارية، ومن أجل الاشتراكية الديموقراطية، كما يفهمها. حتى إن الكتابة السياسية أضحت عنده فنا قائمَ الذات، أي تتطلب مهاراتِ الحذقَ الفنيَّ، ويُدوّن بدقة الآتي:»حين أقرر إعداد كتاب فإني لا أقول بأني سأنجز عملا فنيا، بل أقول لأن هناك كذبا ينبغي شَجْبُه، ومُرامي أن ألفت النظر إليه وأكون مسموعاً. وفي الآن، يستحيل عليّ وضع كتاب، بل مقال ذي أهمية، إن لم يمثل بالنسبة إليَ أيضا تجربةً جمالية». ثم يفكر أنه رغم رسوخ أفكاره في رأسه، واستحالة أن يبدّل عقيدتَه، كما بات الناس يفعلون من أجل مال أو مصلحة عابرة، فالحرب والاستبداد يظلان عدوه الأول، ما زال في حاجة للدفاع عن هذه الأفكار، ولذلك ينشغل كثيرا بروايته القادمة[1984]، هي عنده الوصية الضرورية لتنبيه البشرية لبطش الطغاة، ثم بعد أن يتلعثم، تحضر الفكرة الأخرى:» لا أريد ولا أنا أستطيع أن أضحِّي برؤيتي للعالم التي اكتسبتها في طفولتي. سأبقى ما حييت يقظاً للمسائل الأسلوبية للنثر، وسأواصل حبّي للأرض، كما سأحافظ على تعلّقي بالأشياء المادية البسيطة والمعارف اللامجدية..وكم أدرك أن ما هو أمر سهل، إذ يطرح مشاكل اللغة، ويضع مشكل الحقيقة تحت ضوء مختلف».
* العبارات والآراء الواردة على لسان أورويل مأخوذة هي وتأملات أخرى عن مقالته»لماذا أكتب»في كتابه المترجم إلى الفرنسية:»Dans le ventre de la baleine»(Paris,éd Ivrea,2005).
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 01/06/2022