كلمة : ملتمس الرقابة.. إسقاط الحكومة دليل قوة الدولة

محمد الطالبي talbipress@gmail.com

إثارة ملتمس رقابة لمحاسبة حكومة أو إقالتها أمر عادي جدا جدا، ويدخل ضمن ثقافة المحاسبة والرقابة العادية، وفي المغرب الحديث ظل الاتحاد الاشتراكي مدرسة عريقة في الرقابة البرلمانية ومنها ملتمس الرقابة، وفي الوضعية أو الوضع الأخير لم أكن متفائلاً بنجاح ملتمس الرقابة في خلق معجزة قانونية، لا لقصور في المبادرة، بل لأن منطلقها السياسي محكوم بتناقضات أيديولوجية وتاريخية بين مكونات المعارضة، تجعل من التنسيق أمراً بالغ التعقيد، إن لم يكن مستحيلاً. بعض هذه القوى لا تزال أسيرة جراح الماضي، ولا تنظر إلى الاتحاد الاشتراكي إلا بعين الريبة، رغم مرور الزمن وتوالي المصالحات. دم عمر بنجلون، بالمعنى الرمزي والمادي، لا يزال فاصلاً نفسياً لم تَمحُه الأيام.
ومع ذلك، لم ينطلق الاتحاد الاشتراكي من وهم القدرة على إسقاط الحكومة، بل من قناعة بأن لحظة الحقيقة قد حانت. حكومة تتشبث بمواقعها دون أن تقدّم أجوبة سياسية أو اجتماعية على أسئلة المرحلة، وتفرغ شعار «النموذج التنموي الجديد» من مضمونه على أرض الواقع. حكومة تُحكم ولا تُدبّر.
ملتمس الرقابة، في جوهره، ليس استهدافاً للحكومة، بل انتصار للمؤسسات، وعلى رأسها مجلس النواب. هو آلية دستورية تُغني المشهد السياسي وتُجيب عن انتظارات الرأي العام. أما من يروج لفكرة أن الملتمس مسٌّ بسمعة الوطن، فهم من ضحايا الفهم السطحي للديمقراطية. لأن أخطر ما يهدد صورة الوطن ليس المراقبة، بل الصمت، والركون إلى الانتظارية، وترك الشارع نهباً للتطرف والشائعات.
الفاعلون الدوليون، سياسياً واقتصادياً، يتابعون هذه الديناميات بدقة، ويقيسون من خلالها مدى نضج الدولة ومتانة مؤسساتها. فإسقاط حكومة عبر المساطر الدستورية ليس دليلاً على الهشاشة، بل على حيوية النظام السياسي وقدرته على التجدد والمحاسبة.
لكن ما يدعو للأسف أن أكبر انتكاسة واجهها الملتمس لم تأتِ من الحكومة، بل من بعض مكونات المعارضة ذاتها. فقد بدا واضحاً أن هناك من فضّل مناورات التكتيك الحزبي الضيق على منطق المسؤولية الجماعية. عوض تقوية الصف الديمقراطي وتغليب المصلحة الوطنية، اختار البعض التشكيك، أو التفرج، أو حتى التواطؤ الصامت.
لقد أعاد الاتحاد الاشتراكي بتلك المبادرة الاعتبار لوظيفة المعارضة كمؤسسة، لا كفُرجة ولا كصدى احتجاجي مجاني. عوض أن تُقابَل المبادرة بالدعم والتقويم، واجهتها بعض الأصوات بلغة التشكيك والسخرية، وكأنها تخاف من مساءلة السلطة أكثر مما تخافها السلطة نفسها. والمفارقة أن هناك من داخل المعارضة من صار يعارض المعارضة أكثر مما يعارض الحكومة!
فليس كل من علا صوته صراخاً يُحسب على تيار التغيير. المعارضة ليست شعاراً جاهزاً، بل سلوكا ومسؤولية، والتشويش على مبادرة رقابية هو تهريب للنقاش لا يصب إلا في مصلحة الحكومة المعنية بالمساءلة. إن الاحتجاج بالوسائل الدستورية جزء من البناء الديمقراطي، لا عبء عليه.
ومع ذلك، سنحتاج إلى مهلة زمنية حتى تنكشف خيوط المؤامرة التي حيكت خلسة لإفشال ملتمس الرقابة، وحتى يتضح من مارس رقابة ماكرة على الرقابة نفسها. ثمة طرف لم يكن معنياً أصلاً بالمبادرة، لكنه صار اليوم يتطاوس في تغريدات سوريالية، وكأنه كان صانع الحدث لا متفرجاً عليه. وهذه الجهة، كما تؤكد الوقائع، كانت وراء الانتكاسة الحكومية المستمرة والتي لم تكن صدفة، بل نتاج تدبير ممنهج لضرب القدرات الاجتماعية، وتعطيل الأوراش، وتضييق صلاحيات الحكومة، وتحويل رئاسة الحكومة إلى موقع بروتوكولي، والتخلي عن أدوارها الدستورية لصالح تحكم بيروقراطي مموه غذّته ورعته تجربة تيار مختبئ، ضمن حزب سياسي بلبوس ديني، تغذيه شبكات الريع المالي التي تبتلع الملايير بلا حسيب.
أخطر ما في هذا المسار ليس فقط فشل السياسات، بل التهديد الحقيقي لفكرة الدولة نفسها. فالمنطق الذي يسعى لضرب المؤسسات، وتهميش الفاعلين الحزبيين والنقابيين، ليس بريئاً. إنه منطق يرى في الدولة مجرد وسيلة عابرة لبناء «الخلافة»، حيث لا يكون الولاء للوطن بل لـ»الخليفة المتوهم»، وحيث يتحول الوطن إلى ساحة عبور لا أكثر. ولنا في التجارب القريبة والبعيدة مثال ساطع لمن أراد أن يعتبر.
حمى الله هذا الوطن بمؤسساته، على اختلاف درجاتها، والعمل على إصلاح أعطابها واجب وطني لا مزايدة فيه. وإن كان من فضل لملتمس الرقابة، فهو أنه كشف حجم العطب، وحرّك المياه الراكدة، وأعادنا إلى سؤال جوهري: لمن الولاء؟ للوطن أم للمشروع العابر له؟

الكاتب : محمد الطالبي talbipress@gmail.com - بتاريخ : 29/05/2025