كورونا القزم الذي يحكم العالم اليوم!

عزيز الحلاج

من كان يتصور يوما أن فيروسا أصغر بنحو مئة مرة من الباكتيريا، يتحكم في أحوال ومشاعر ومصائر الشعوب والأمم، فقط بعطسة، وسعلة، ولمسة، ببصقة متشظية؟
من كان يخطر على باله يوما أن يسمع لسان حال كورونا وهو يردد:” كل بلاد الدنيا جنسيتي، فارفعوا عني جواز السفر؟
يعتمر كورونا طاقية إخفاء، فيتسلل إلى أجسامنا،إلى محيطنا، يتخلل أصابعنا وأكفنا، يمر من تحت أنوفنا ونعالنا، يوزع الرعب والقلق ذات اليمين وذات الشمال..ويعدنا ويمنِّينا بموتات بئيسة بشعة.. يُعتقل ويُحتَجز على إثرها فلذات الأكباد والأحبة وكل من صافح أو عانق أو رسم قبلة على يد أو رأس أو جبين. وتتفاقم وحشية كورونا القزم، في حظره كلَّ مأتم، فلا بكاءَ ولا عزاءَ، ولا غسلَ ولا كفنَ ولاصلاةَ في المسجد ولامشايعةَ حتى المثوى الأخير..ضحايا كالغرباء في قبور غريبة من غير حفارين أوشواهد أو ترقيم أوأكف ضراعة بالرحمة والمغفرة.
من كان يصدِّق يوما أن فيروسا قزما يهزم جهابذة العالم وخبراء في علم الفيروسات والأوبئة والصحة العامة،وعمالقة صنعوا الأقمار الاصطناعية، التي برغم بعدها عن الأرض، قادرة-كما يزعمون- على رصد أجسام صغيرة، وابتكروا طائرات فانطوم، التي لاتراها الرادارات، وتحدثوا عن براعتها في رصد كل جسم هدف يتحرك فوق البسيطة، واخترعوا كاميرات دقيقة ومجاهير ذكية رأوا بواسطتها الغِيران الصغيرة جدا وما بداخل الأحشاء..والكواكب والمجرات البعيدة..وأنجزوا بحوثا علمية مذهلة وفحوصات مخبرية..وعقاقير ولقاحات مضادة للفيروسات والمانحة التحصينَ والمناعةَ.
لكن، لماذا كل هاته الإنجازات والاختراعات والدراسات الموثوق بها والمثيرة، والعجْزُ بيِّن عن توفير علاج فعال لكورونا ، الفيروس القزم، الذي يجول ويصول بكل حرية، يعبُر البيوتات والأزقة والأحياء والمداشر والدواوير..والمدن والدول بل والقارات؟ لماذا العجزُ -حتى الآن- عن تحديد هويته، طبيعته ونوعيته، وعلاجه؟
ولقد تفرق الناس في تفسير هذا الفيروس الشرس القاتل، فمنهم من اعتبره جندا من جنود الله، وسرا من أسراره(يضع سره في أضعف خلقه)،على غرار الفيضانات والبراكين والحرائق والقحط والمجاعة.. بعثه الله ليُنقذ البشرية ويُطهِّر الأرض من الجور والفساد والخطايا.. فخرج الناس إلى الشوارع لقراءة اللطيف، ومنهم من استنكر إغلاق المساجد، وعقدوا الأعراس، ونظموا المآتم، ودعوا لاستمرارالمواسم والأسواق الشعبية الكبيرة، لايلوون على شيئ، ولا تهمهم سلامة صحتهم ولا سلامة صحة غيرهم في شيئ.
ورأى البعض أن الحديث عن كورونا، هو ضرب من الإشاعة، ولاوجود له في الواقع، فنشروا تغريدات في وسائل التواصل الاجتماعي، عبارة عن نكت، وفيديوات تتهكَّم أو تهوِّل، من أجل حصْد لايكات ورفع منسوب الزيارات..وهي إنجازات استقبحتها الجهات الأمنية وتصدت لها بالغرامات والحبس.
وذهب فريق من الناس إلى أن كورونا واقع لاغبار عليه، وأن الوضعية الاستثنائية المعيشة، تقتضي أمرين: التحلي بالواقعية وتحمُّل المسؤولية أمام الفرد نفسه وإزاء محيطه، إذ لم يعد الأمر سهلا. فالمغرب وكثير من دول العالم، إنما استسهلوا هذا الفيروس الحقير الصغير عند ولادته وحَبْوه، فطوَّر نفسه في غفلة واستهانة ، ليمسي وباءً جامحا يصعُب احتواؤه، فأصبح المتعين، هو التخفيف من استفحال عدواه التي تشبه فعل النار في الهشيم.
وتحدث البعض وأسهب، عن أن هذا الكورونا هو من صُنع صيني، فلَت من مختبراتهم، وقال آخر هو من صُنع أمريكي زرعه عميل في مدينة ووهان الصينية، وتحدث آخرعن أنه من صنع الشركات العالمية أو مافيات الفيروسات على غرار مافيات الأسلحة..وبكلمة واحدة، فالمسعى من صعْق وكهْربة الشعوب وقضِّ مضاجعها،-يرون- هو تركيعها وإخضاع حكوماتها إلى تعليمات وإملاءات لنهب ثرواتهم واستنزاف جهوداتهم التنموية والحفاظ على تبعيتهم.
والعجيب العُجاب أن البياض الأعظم من الناس، لايخشون الموت الذي يلوِّح به كورونا القزم، وإنما من الموت جوعا أو حبسا في البيوت. ولهذا تمرد البعض ممن نفد صبره حُيال عجز السلطات الأمنية عن إيجاد سيناريو في حينه لإعالته،سيناريولا تضيع بسببه جهودها في صون السلامة الصحية المنشودة، فكسّرهؤلاء قانون الحظر،صارخين باكين شاكين حالاتهم وحالة فلذات أكبادهم.
ولقد وجد “الأطباء الشعبيون” وكثير من الدجالين والمشعوذين وأهل الرقية والعلاج بالقرآن، في استشراء كورونا فرصة ذهبية ليسلبوا الناس أموالهم ويستخفوا بعقولهم..فكثرت الخلطات وتعددت الوصفات، وتم ربط العدوى بالتغذية كما تم ربطها بالمس..وجعلوا الأبخرة علاجا فعالا، ولجأ البعض إلى الاحتكار والمضاربة والنشل، والمتاجرة في الرهاب السائد.
وإزاء جهل الناس وتهورهم وعدم تقديرهم خطورة الوضع، شرع كورونا يتنقل بخطوات واسعة، واستطاع أن يهدم المعابر، ويُغلق الحدود، ويُدمر الحركة التجارية، ويَنسف النشاط الإنتاجي..وينعش الإفلاس ويسمح بالتساريح من العمل، ويحتجز الناس في بيوتاتهم.
قام كورونا بكل ذلك، لإعادة تشكيل ثقافة الإنسان، وتغيير رؤيته نحو نفسه ، نحو أخيه الإنسان، نحو المجتمع، نحو الطبيعة بل نحو الكون ككل.
فالإنسان لا يلتفت إلى جسده إلا قليلا:والنظافة ضرورية، إذ تقي المرء من الأمراض المعدية، وتمنحه نشاطا زائدا، كما لايعير كبير اهتمام لنظافة مسكنه، وبيئته لإعطاء القدوة الحسنة للأبناء والجيران، وجعْل الوطن من خلال ذلك السلوك الفعلي المحمود، وطنا نظيفا راقيا وحضاريا.ولقد ساهمت الحكومات-بدورها- في الإضرار بالبيئة أمام التوسع العمراني، بقطع شجرة ووضع مكانها طوبة اسمنت، لتتحول الغابات والمنتزهات والحدائق الغناء والبساتين الخلابة إلى اسمنت على اسمنت، أضرّ بالمناخ ، ومازجت المصانع الأجواء النقية بأدخنتها الملوثة حتى لم نعد نرى زرقة السماء، ولا نستمتع بترادف فصول السنة بشكل طبيعي،وصبت فضلاتِها السامة في الوديان والبحر حتى تضررت الحيوانات المائية، وغضت الطرف عن الزيادة في النمو الديمغرافي، حتى أضحت الأرض تنوء بحمل المواليد الجدد الذين أحدثوا خللا في التوازن البيئي.
وعلاوة على ثقافة النظافة التي لقننا إياها كورونا القزم، ثمة ثقافة إدارة الأزمة.وقد طُرحت على المجتمع برمته.والإنسان المغربي الذي وجد نفسه بين عشية وضحاها منكمشا على نفسه قابعا في بيته لا يغادره إلا بإذن أو وثيقة، تعيَّن أن يعمل على مواجهة كورونا الكارثة الوبائية للحد من تزايدها وآثارها الوخيمة، بالامتثال لتعليمات السلطة وبتحمل المسؤولية كاملة.ولقد لعبت وسائل الإعلام المكتوبة والمنطوقة والمسموعة دورا خطيرا في تقليص العدوى وتحجيمها حتى لا تتعاظم،كانت اللازمة هي “رجاء ابقوا في بيوتهم لا تغادروها تحت أي مبرر لحصار الوباء ومن أجل السلامة الصحية للجميع، وعمل الآباء على تفسير الواقع المستجد لأهليهم، ودعوتهم إلى التكتل والتضافر كل من جهته حتى احتواء الأزمة.
وطرح كورونا في هذا الظرف العصيب،كذلك ثقافة التعاضد والتكافل الاجتماعي لمواجهة آثار التوقف الاختياري أو الاضطراري عن العمل بالنسبة لبعض الجيران أو الأهل مع ما يستتبع ذلك من ضغط اقتصادي ومتطلبات الحياة، ف”المرء ووجهُه”، كما نقول بالعامية، يُوثِر على نفسه ولو كانت به خصاصة، يتصدق بما قدر عليه ، من أجل عاطل، أو يتيم أو أرملة أو مطلقة أو صاحب إعاقة أو حتى ابن سبيل مثل المهاجرين الأفارقة والمشردين بالأزقة والدروب، وبعض الفلاحين الذين لايقوَوْن على إعالة أنفسهم وذويهم-في هذا الظرف الحرج والاستثنائي- فبالأحرى إعالة ماشيتهم وأنعامهم.
وليس التكافل وقفا على الإمداد المادي فقط، فقد يكون -بالموازاة- معنويا ب:السؤال عن الأهل والأحبة وتفقد أحوالهم هاتفيا أوعبر مواقع التواصل الاجتماعي، أو على الأقل جلوس الآباء إلى جانب أبنائهم وزوجاتهم وآبائهم ممن يقطن معه، للتخفيف عنهم معاناة الحظر الصحي الذي لم يعهدوه من قبل، والذي قد يطول إلى أجل غير مسمى. فلنبق في منازلنا، ولنتحل بالصبر، وإنها لغمةٌ ، اللهُ ونحن والسلطات المعنية بل ومجتمعنا ككل، قادرون على فكها.

الكاتب : عزيز الحلاج - بتاريخ : 02/04/2020