لو عادت فاسُ إليك يا رشيد جبّوج، لأجّلتَ السَّفَر

أحمد المديني

كنتُ وما أزالُ مثخناً بالموت، تربّص بي من كلّ ناحية وأراه يزحف من كل حدْبٍ وصَوْب.
كنتُ وما أزال حين أتلفّت ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشِّمالِ فلا يأتيني أسمع إلا النّعيَ تلو النّعي، أريد أن يصيبني وقْر، بتُّ أنبُذُ الغناءَ وأعجبُ كيف يتغنّى البشرُ بالحُبِّ يتولّع بالأشواق، أنا من كان يَعجَبُ كيف أنك إذا خفّفت الوطء في أزقة فاسَ والشامِ ودربِ الحبوس ستسمع الحجرَ يطرَبُ والأصواتُ رقيقةٌ وأخرى صنوجٌ ورنينُ أساورَ ببعضها وعقيقٌ وخارجَ الأسوار حُداء. أمسِ، كنت أَعُدُّ الزمنَ بصخبِ الحياة، الزمن الذي أركض فيه ما يراني، وأقول مع أبناء جيلي في جموح خيلنا وصهيلي، نحن روّاد الأبد، سنعيد تشييدَ هذي الأرض لتحمل اسمنا والغد؛ نحن.
ولأنّي أبيتُ دوماً أن أعتدّ بأمس وحدَه، أو أن أتباهى بالأمجاد كالمعلّقات على أستار الكعبة، أمعنت أخوض في الحاضر سابحاً فيه موْجا هائجاً ورائقاً أذهب إلى العاصفة تتقدمني ولا أبالي بها جائحةً من خلفي، لأننا نحن جُبلنا من الهزيم والبُروق وصدأ الأصفادِ حتى أنينِ القيْد؛ نحن. لم تَمُرّ بنا ساعةٌ بدون وجَع، يَفتَرُّ الثغرُ إذا ما القلب دَمَع، ولا نُقاضي ماضينا بخُذ هذه ودَع. انضوينا في الصمت وقتاً والكلامُ طوعُ اللسان سلسبيل، كنا نرقبُ كيف تنكفئ الوجوه ويتبدّل الشّممُ بأنف ذليل، وفي الجوّ كُورَسٌ يُطرب الأسماعَ كأنه بَلسمُ أوجاعٍ بموشّح يا عين يا ليل. آمنّا وما نزال أن الكلام حياة، وحين يفقِد المعنى ويطغَى الغُثاء، سنرحل خيرٌ من أحياء موات.
ينبغي أن تكون من فاس لتعرف ما معنى الحسرة والندم على ما فات، هذا لسانُ حالٍ وما تخثّر في العروق من دم، لا يستعاد، هيهات. حين تزورني رشيد نتسلّى بالظاهر والسرائرُ أكبر من أن تقال، بيننا كلمة السّر بعض فحواها» حتى لو وَهَنَ العظمُ، اشتعل الرأسُ شيباً، لن نَهون، لا نستسلم، فالخيل العِتاق لا تُسام كالدّواب، وأعمارُنا، نعم، مآلها التراب، لكن يا جدنا محمد أنت لم تتبَع السراب، رأيتَ بالبصيرة النورَ فهان الطريقُ والمسافاتُ ولكلِّ دعوةٍ مشقّات. رغم اختلاف الأعمار ومواعيد السفر» مشينا في طريق مقمرٍ تثِبُ الفرحة فيه قبلنا/ وضحِكنا ضِحكَ طفلين معاً/ وعدَوْنا فسبقنا ظّلنا»، وكان لنا فيه مُنىً وأرَب، وأفقنا حيارَى لنرى كلَّ شيء ذهب!
أنا وإيّاك، لا نحتاج إلى الكلمات الكبيرة لذلك الزمان، لا يليق استعمالها هذا الأوان، فلكلّ وقتٍ كبارُه وأقزامه، مزاياه ومثالبُه، أم تصبحُ المثالثُ والمخازي، السيرةَ الوحيدةَ المرويةَ على لسان الرّائِح والغادي، خسِئت فلانةُ وبئسَ علاّن؟ تلك الكلمات صارت بلاغةَ نظرياتٍ وأُفرِغت من استعارات الشجاعة والشهامة لتُنسَخ مقولاتِ عَجاجٍ وطرزَ كلام، لا عجب يستفحل الشعراءُ والثرثارون والسّفهاءُ في المواقع والورق الرخيص، ويقيء النّصحُ من لسان أيّ جبان خسيس. أنا وإياك، أبناءُ الكلمة الصغيرة اسأل عنها أحمد المجاطي:» ما بالُها تكبُر في الهواء/ تحجُب وجهَ الشمس؟ تُلقي ظلَّها؟ تغمُرني بالرَّجعِ والأصداء؟ ما بالُها؟ مملكتي مملكةُ الصّمت…».
أخيراً، التقينا في منعطف الحلم بعد طول فراق، أنت وأنا كانت لنا مرتعاً لملاعب الصِّبا، في حي مولاي عبد لله بفاس الجديد، ارتقيتَ أطلالِ ما يعزفون خلفه موسيقاهم الرّوحية، ويجهلون أنهم بنياط قلوبنا يعبثون ويتسلّون وأحيانا يَفجُرون ولا يبالون، عندهم ثقافةُ وأشجانُ الشعوب غنيمةٌ أخرى، وماذا لو حوّلوها إلى رصيد إضافيٍّ في صندوق آل قارون، ينهبون ويمنعون الماعون، نعلم أنّا وأنت، سيان التاريخ يكتبه منتصرون أو منهزمون، الفضيحة أن يتصدّى له سماسرةٌ وجحوشٌ ويعهِّرَه قوّادون، فيروُونه نِكاتاً وإما يبيعونه أقراصاً تُبلَعُ قبل النوم للنّسيان. وصدحتَ:» هذه الربوةُ كانت ملعباً/ لشبابَينا وكانت مرتعاً»، وأمسكتُ بهمتك فكففتَ عن البكاء.
تقول: تعال معي ( نَحُوف)،
إلى فاس، إلى لمدينة، لنطوف،
ـ من أي باب تحبُّ أن ندخلها،
ولا تتيه فيها الروح قبل القدم،
قد نضيع يا رشيد وفاس في خُسوف؟
من باب أبي الجنود، نبدأ، كم سكبتَ في أذنها وسمعِكَ من وعود؟ أم من باب محروق فنرى الدمّ بعدُ مهروق، ودمُ لسان الدين ابن الخطيب يصحو رمادُه يبزُغ أعلى السّور مع كل شروق؟ ثم ننزل إحدى الطالعتين، أنت تحب الصغيرة، لنشرب حريرة بوعياد أولاً ونؤجل للعشِيّ فيلم سينما بوجلود، فأمامنا هبوطٌ طويلٌ عميق إلى القاع، فنحن في فاس حيث عاش أهلُ الباع، نقف هنيهةً نتبرك بمطبعة بوعياد نشتري اليومية / ثم نسلم على روح الفقيه بن عبد لله على اليمين قبل لَوية الزّْربطانة، وشويّة شويّة على اليسار ندخل مركز حزب الشورى والاستقلال، انس أنه تحوّل إلى مطعم أو بزار، البلد كلّه مِسخ، من حسن الحظ سويقة بن صافي ظلُّها لا يزول.
تقول، تتنفس آآه، من بدء النزول في زقاق الحجرنفسي تشعرُ بالوجود، تفتح كتابَ الذاكرة فوق الحجارة صفحةً صحفةً عسى العمرُ يعود، تتوالى الخطواتُ إثر الصفحاتِ ترى قوماً آخرين احتلّوا المكان مَحوا مجدَ الذكريات. انسَ، رَ، والأفضل أن لا ترى، أسرِع بي تقول إلى ساحة النجارين، أريد أن أبلّغ رسالة إلى مولاي ادريس في الضريح، أن أبثّه ما عمَّر طويلا في صدري من سِرٍّ جريح. وصلنا، شاي لله أمولاي ادريس: أنا عبد لله رشيد جبوج،جئت أستودِعك ما في قلبي من حب لرفيقة مهجتي، ولأهلي وأصدقائي ورفاقي ووطني، وما عملته مخلصاً وحلَمت بعمله، وأعدائي أيضا أغفر لهم لا أعاتب من لا يحبون، أنا ذاهبٌ لأستريح.
يا لله، يا لله، تستعجلني، ما بقاش الوقت، طليلة على القرويين ولا بدّ، ونترك العَدْوة، لا بد من المرور بالصّفّارين لسماع إيقاع الصواني، بالدّبّاغين لأرى بهيجَ الألوان، بالرّصيف، أحتاج شمّ العطرية ولِقامة والنظرَ إلى الزعفران، والمرور فوق القنطرة في مائها كنا نسبح كالفئران، منها إلى المخفية، منها إلى باب الحمرا، سِرْبي سَرْبي عدوة الأندلس تحتاج إلى عمر آخر لم يبق عندي، سربي سربي، أعرف أنت هواك في باب الخوخة، ما الحب إلا للحبيب الأول، أريد المغادرة من باب الفتوح، أخر المطاف، سأصعد إلى لَقْبَبْ[مدفن فاس الجنوبي العالي] لله، أجمل مكان لأغنّي لها بحنجرة عبد الهادي بلخياط أغنية الوداع: «أمحبوبي عاد الربيع/ وموسم لمسارية اضوا/ بالشمس والأزهار/ أمحبوبي جاد الربيع/ وعاشت من هي فانية/ واليابس اخضر/ وأنا قلبي ما لقى شفيع/ جعلك عنّه راضية وتعود للجوار(…) الدار بلا بيك خالية ماهي ش دار» لو أجّلت السفر يا رشيد لعادت فاس إلينا معا ولحلّ الربيع، فإلى اللقاء أمحبوبي…

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 12/04/2023