ما خلفية انتصار اليسار حضاريا وسياسيا وثقافيا ؟
عبد السلام المساوي
في برنامج مدارات على قناة الغد الإخبارية ، _ 10 _ 10 _ 2020 _ تحدث إدريس لشكر عن اليسار ، بالأمس واليوم وغدا، مؤكدا ( أن اليسار في المغرب حافظ على نفسه رغم انحساره في العالم نتيجة الانتكاسات الانتخابية التي تعرض لها …
اليسار ، بالرغم من كل الكبوات التي عرفها، فإنه لم يستسلم، بل في العالم كله قام بمحاولات إبداع لاستنهاض قوته، نستحضر هنا محاولة نهج الطريق الثالث مع شرودر وجوسبان وبلير ….
ونحن اليوم، حزب فاعل في هذا الإبداع اليساري؛ إننا كحزب يساري اشتراكي مغربي، الحزب الوحيد في الأممية الاشتراكية والتحالف الاجتماعي التقدمي ..
وبفضل تجذرنا في التاريخ والمجتمع، وبفضل اجتهادنا وإبداعنا نسجل أننا نكاد نكون الحزب الاشتراكي الوحيد الذي حافظ على ذاته واستمراره وتوازنه، في ظل التغيرات والتحولات العالمية التي أقبرت أحزاب اشتراكية عريقة في المنطقة العربية ….
وبالرجوع إلى تجربة التناوب التوافقي التي قادها الراحل عبد الرحمان اليوسفي ، نتفهم ضعف تمثيلية اليسار من عدد المقاعد في البرلمان، وهذا ليس استثناء مغربيا بل تجربة دولية، ولنا من التجارب الدولية ما يؤكد هذه الأطروحة بوضوح؛ فالانتقال من المعارضة إلى موقع المشاركة السياسية يؤثر سلبا على شعبية الحزب ؛ فالحزب الاشتراكي الإسباني الذي قاد مرحلة الانتقال الديموقراطي بنجاح ما بعد فرانكو، تلقى ضربة قوية وموجعة بعد الاستحقاقات الانتخابية، رغم ما قدمه لاسبانيا من انجازات كبرى ورغم ما حققه لاسبانيا من قفزة تنموية نوعية…ونفس الأمر ينطبق على الحزب الاشتراكي الفرنسي الذي عرف هزيمة انتخابية قاسية….
ولم يخرج حزب الاتحاد الاشتراكي عن هذا المنطق المجحف، لكن بتحد فكري وإصرار سياسي، حافظ على ذاته وحضوره عدديا وسياسيا وفكريا في المشهد السياسي بشكل متميز ) .
أين نهاية الفكر الاشتراكي وأين أولئك الذين أبوا إلا أن يلصقوه بقاطرة الماركسية، تلك الماركسية التي كلما صبت مدامها لتستساغ شرابا سلسبيلا كلما كانت سما زعافا في الواقع ؟
إن كل الأجوبة في هذا المجال مقنعة، حتى الاشتراكيون أنفسهم، فإن أجوبتهم إرضاء لعاطفة نرجسية أكثر منها طرقا لأسئلة المعرفة، إنهم يقولون: لأننا في اتجاه حركة التاريخ، لكن هل يتقدم التاريخ دائما إلى الأمام ؟ ما معنى حركة التاريخ ؟ ألم يقل النازيون والفاشيون نفس الشيء. أكيد، شتان بين إيديولوجية ذات بعد وجذور طوباوية تستهدف تحرير الإنسان وإيديولوجية استعبادية أنانية إقطاعية، كل ما يمكن قوله في هذا المجال أن الفكرة الاشتراكية ولأنها تنبثق وتتفتق هنا وهناك عبر أنحاء المعمور، فإن هذا يعني في نهاية المطاف أنها محملة بهذه الطاقة التي لا تنضب، طاقة الإشعال الدائم لهذه النار المقدسة بين جوانح الإنسان …نار تجاوز ظرفه الإنساني البائس إرثه الصدئ….
في كل منعطف كان الاشتراكيون حاضرين، وكانت شعاراتهم تجد صداها العميق عند القوى المرشحة لاحتلال الصدارة في مجتمع التغيير والإنتاج : تشددهم في ما يتعلق بالحريات العامة، استنكارهم العنيف لكل ما يمس كرامة الفرد …الدفاع المستميت عن دولة المؤسسات الضامنة للعدالة والمواطنة …ولأن هذه المواقف كانت تغذي الحقل السياسي في مجمله، فإن الاشتراكيين لم يكونوا دوما وأبدا في المعارضة، ولكن أيضا في سدة الحكم كلما دفعتهم صناديق الاقتراع إلى ذلك، أو تحالفات مدروسة مسبقا في إطار استراتيجية محددة سلفا …هنا قوتهم الحقة وسر تقدمهم واختراقهم الصفوف، لقد كانوا يعلمون علم اليقين أن البرامج مهما كانت لامعة ومجندة وملهمة، فإنها إذا ظلت حبيسة مظاهرات ولافتات وهتافات، لا تلبث أن تذبل فاسحة المجال لسياسة الخصم وديماغوجية الخصم …
هكذا ومباشرة بعد الحرب العالمية الثانية رأينا الاشتراكات الديموقراطية تقفز إلى السلطة بجانب القوى الليبرالية والديموقراطيات المسيحية في فرنسا، كما في بلجيكا، كما في إيطاليا وألمانيا الغربية، لكن هذه المرحلة لم تلبث أن ولت عابرة حاملة معها حرارة التجربة …كانت الاشتراكية تدخل مرحلة التقلص ، مرحلة الرأسمال يبرز أنيابه المتوحشة ، يؤازره الرأسمال الأمريكي مثلما حدث في انجلترا مع تاتشر، تلك المرأة الحديدية حقا، والتي أعطت للمجتمع الإنجليزي فرصة رائعة في أن يكتشف هول الثمن الذي عليه أن يدفعه نتيجة سياسة الباب المسدود، نفس الشيء كان يجري بهولاندا، باسكندنافيا، في فرنسا بعد دوغول وبومبيدو، كان جيسكار متبصرا، وكانت كل المؤشرات تشير إلى أن الاشتراكيين وحلفاءهم الشيوعيين عليهم أن يستعدوا لاجتياز قفار مائة عام من العزلة، لكن تحولات كبيرة كانت تجري على الساحة الأوروبية، وكانت معالم الأزمة قد بدأت ترسم ملامحها الكاملة على جبين طوابير العاطلين، وبدت خطب اليمين كأنها للاستعراض والعرض لا لطرح حلول جديدة. في هذه اللحظة الحرجة كان ميتران يعتلي كرسي الجمهورية، وبدا كأن تيارا عاصفا ينطلق من باريس يرفع كونزاليس بمدريد إلى الوزارة الأولى، وكذلك الأمر في أثينا لصالح باباندريو وروما لصالح كراكسي..
هذه الانتصارات كانت تحيل بالطبع لتحولات اجتماعية واقتصادية على مستوى المشهد الجغرافي الأوربي، ولكنها كانت تحيل أيضا على التحولات في البنية الإيديولوجية للأحزاب الاشتراكية نفسها، كانت تتخلص من قيد الحليف الشيوعي، تراهن على دمقرطة المجتمع وتتبنى على المستوى الاقتصادي براغماتية نفعية وحسا تكتيكيا على المستوى السياسي….
هذا البعد البراغماتي هو الذي بتفاعله مع محيطه ومع تطور البنى المؤسساتية الوطنية والظرفية الاقتصادية الدولية، أعطى شخصيات جديدة تتسم بالدينامية والذكاء السياسي وحس العلاقات الاجتماعية وفلاحة الشخصية الفاتنة إعلاميا …هذا الجيل مثله بامتياز جوسبان وبلير وشرودر …لكن لا يجب أن يغرب عن بالنا هذين الأخيرين، إضافة إلى الخصال الآنفة الذكر، فإنهما حققا نصرا مؤازرا ضد المحافظة، في حين أن انتصار جوسبان ونظيره الإيطالي يعود لتدهور وتفسخ الزعامات المحافظة ….
ليس سرا أن الرأي العام الغربي الذي يقدر في زعمائه نبل طموحاتهم الاشتراكية، فان بودلو يراهم يطبقون إصلاحات ذات خلفية رأسمالية ليبرالية تعطي الثقة للمستثمرين والمنتجين والعاطلين، وتشجع على المبادرة أصحاب الرأسمال، فلا الفرنسيين ولا الإسكندناف ولا الإنجليز ولا الألمان يودون تحولات اقتصادية جذرية، لا أحد يعلم أي اضطراب وأي خلل قد تأتي به . إن الرأي العام يحلم برؤية اشتراكية أكثر إخلاصا بحسهم الأخلاقي للفكرة الليبرالية المستنيرة …من هنا محاولة الاشتراكيين تجرع الكأس الليبرالية، من هنا دفاعهم المستميت عن اقتصاد السوق ، وليس سوق الاقتصاد ، كما كان يقول جوسبان وبلير، من هنا تعبئة وتجنيد الآلية الألمانية من طرف شرودر، ومن هنا خاض الاشتراكيون الديموقراطيون في اسكندنافيا باسم التقشف وتطهير المالية العمومية، وكذا في هولاندا، حيث خاض الاشتراكيون معركة إنجاز سياسة تشغيلية جنبا إلى جنب مع خصومهم الرأسماليين .
قد يقول قائل ماذا تبقى من الفكرة الاشتراكية أمام كل هذه التنازلات ؟ أقول : تبقى فكرة الديموقراطية في بعدها الاجتماعي الحمائي، يبقى التشبث بالدولة الحاضنة والحامية للاختلاف والمساواة، يبقى التشبث بفكرة اقتصاد السوق أداة إغناء للمجتمع لا وسيلة احتكار وإغناء كمشة من الطفيليين والاحتكاريين، يبقى الدفاع عن علاقات متميزة مع العالم الثالث، تبقى الحرب الشعواء ضد الدكتاتوريات والحروب الإجرامية التي تمارس في حق الإنسانية …
إن الاشتراكية قبل كل شيء فلسفة سياسية تزوجت مطامح اجتماعية وتاريخية …إنها مناضلون ومفكرون وأحزاب سياسية ومعركة طويلة الأمد والنفس ….إن اشتراكية الأمس ليست قطعا اشتراكية اليوم، وهذه لن تكون بتاتا اشتراكية الغد….انتصار الوردة…
إن الفكرة الاشتراكية في المعارضة ليست هي قطعا نفسها في السلطة، إنها في المعارضة ذات بعد فاتن مجند، لكنها في السلطة ذات بعد باهت متهافت متآكل ، ولكن العيب ليس في الفكرة بل في فصل حس المبادرة وروح الخلق عن الفكرة، ذلك أن هذه العوامل هي الطاقة المغذية للفكرة التي لا تجد إشعاعها في تسيير الروتين اليومي، ولكن في ارتباطها الدائم بحلم الإنسان، بمعنى مشروع حضاري دائم التجدد، دائم الافتتان ..
إن الاشتراكية الأوروبية لم تكسب معركة وكفى، ولكنها كسبت حربا عمرت طويلا انطلقت مع الثورة الفرنسية؛ لقد كسبت معركة حقوق الإنسان ومعركة المواطنة ومعركة الديموقراطية …إن الأمر يتعلق بإرث حضاري ومجموعة قيم ذات طابع سياسي مؤسساتي تربوي وأخلاقي، وهذا الإرث لا يجب اليوم أن يكون إرثا ثقيلا ولا إنجازا للاستعراض، ولكن إلهاما لمواجهة مشاكل ذات طابع جديد كل الجدة …إنها الانفجارات البورصوية وعواقبها على الاقتصاد الوطني …إنها كيفية الحفاظ على الدولة الحاضنة لا بتقويتها، ولكن بإصلاح ميكانزمات تدخلها مع ما يتلاءم وحرية المبادرة والسوق، إنها كيفية إدماج المهاجر ثقافيا واجتماعيا.
يؤمن الاتحاد الاشتراكي بأن الاشتراكية الديموقراطية هي البديل الضروري لمعالجة الاختلالات الاجتماعية، وإحدى مداخل الحداثة واستدراك التأخر التاريخي، فالاشتراكية ترتبط بالفضاء العقلي للحداثة، ومن هنا آمن الاتحاد الاشتراكي بضرورة تحيين الاشتراكية كمثال بفك ارتباطها بنماذج معينة وبالحفاظ على الشحنة الفكرية التي قامت عليها، أي التشبث بالأرضية الحداثية الثقافية للاشتراكية وخلفياتها الفلسفية الأنوارية …
لقد اقتنع الاتحاد الاشتراكي أن كل معاودة للاشتراكية كمنظومة إيديولوجية تطرح الانتماء إلى الحركة التاريخية للاشتراكية لا إلى رمز من رموزها أو نموذج من نماذجها، وهذا يقتضي إدماج الثقافة الليبرالية والديموقراطية السياسية ضمن المنظومة الاشتراكية، والاعتراف بالسوق في إطار تحقيق العدالة الاجتماعية والقبول بالعولمة …إن اشتراكية قائمة على المحاسبة وعلى المعرفة بالمعطيات لعصرنا بإمكانها أن تخفف من الآثار السلبية للعولمة ( التفقير، تهديد الديموقراطية، سيادة المال والثقافة البرصوية…) الاشتراكية مشروع يتطلب جهدا وصراعا في البناء والتقويم لتجنيب المجتمع الانكسار والانفصام …ولأجل أنسنة السوق وتخليقه، فالاشتراكية مطالبة أمام انبعاث الرأسمالية من أزماتها، أن تتوسل بمعرفة المعطيات المستجدة وأن تتشبع بأخلاق اقتصادية وثقافية إنسانية…
يقول الكاتب الأول للاتحاد الاشتراكي لشكر ( إذا كنا في الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية قد حسمنا منذ عقود خلت في سؤال هويتنا، واعتبرنا أننا حزب يساري وطني، واشتراكي ديموقراطي، يتميز بتنوع روافده التأسيسية، ويجسد استمرارا لحركة التحرير الشعبية، فإننا في نفس الآن، كنا نعود من حين لآخر في بعض محطاتنا التنظيمية وكلما دعت الضرورة إلى ذلك، من أجل تدقيق بعض الجوانب المتعلقة بهويتنا السياسية، ولتفويت الفرصة أيضا على بعض محاولات التشويش والتعتيم، وخلط الأوراق في المشهد الحزبي ببلادنا…)
الاتحاد الاشتراكي قوة دفع تقدمية، يسارية اجتماعية – ديموقراطية تروم إصلاح وتطوير الأوضاع، والمساهمة في رسم خطوط المستقبل، ومناط تحول في المجالات كافة، السياسية والمؤسساتية والاجتماعية والثقافية….
وإذا كان الاتحاد الاشتراكي أداة إصلاح وتغيير في الحاضر ومناط تطوير وتحديث في المستقبل، فإن قدراته السياسية والفكرية على التكيف والرؤية البعيدة، ومؤهلاته النضالية والميدانية، لتجعل منه قوة فاعلة في حاضر البلاد ومستقبلها ، كما كان وقود نضال وتغيير في الماضي البعيد والقريب…
إن الاتحاد الاشتراكي هو القوة المجتمعية الأكثر انفتاحا وتأهلا للمساهمة بفعالية، في إنجاز الأوراش الإصلاحية، على قاعدة الجدلية الحية القائمة بين الإصلاح والاستقرار، في إطار مجتمع متماسك، متضامن ومتطور…
وفي هذا السياق الذي تحكمه إرادة المبادرة، لا انهزامية الانكفاء، تندرج جملة من الاقتراحات التي يطرحها الاتحاد الاشتراكي؛ في مجالات حيوية لصيقة بمعيش أفراد الشعب، سواء في المجال الاجتماعي أو في المجال السياسي والمؤسساتي …
ولسنا في حاجة إلى تذكير دعاة التشكيك في القدرة اللامحدودة للاتحاد الاشتراكي على احتواء وتجاوز كل الكبوات النضالية، عبر مساره النضالي الطويل، وعلى كفاءته العالية في التكيف الإيجابي والمنتج، مع حقائق البلاد، ومع مستجدات محيطها القريب والبعيد…
إن الاتحاد الاشتراكي الوفي لتاريخه الوطني، المتشبع بهويته التقدمية، المستند إلى جذوره الاجتماعية – الشعبية، ليشكل في عالم اليوم قوة سياسية، حداثية، تنخرط بوعي ومسؤولية في المساهمة في صنع مستقبل البلاد، عبر مراهنتها المتبصرة، السياسية والتنظيمية، على دور الشباب، ودور المرأة، ودور الأطر الوطنية، ودور القوى المنتجة في البلاد في استيعاب التحولات الإنتاجية الجارية ، واستدماج الثورات التكنولوجية المتواصلة …
الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 13/07/2024