ما معنى أن تكتب بشكل لائق؟

سعيد منتسب

نحن دائما أمام خيارين: إما أن نبتلع قرصا منوما عن قناعة وبكامل إرادتنا لإخماد يأسنا الكبير من كل شيء، وإما أن نمعن في إلغاء الجميع، أي «اللا أحد» حتى نحقق وجودنا المعلق. إن «ضد الجميع»، كما أتصور، مجرد وقوف متعاكس أمام مرآة العالم المائعة، واحتماء من ذلك الكم الهائل من التكرار الذي يجعلني أترنح بقوة ما دامت «المياه كلها بلون الغرق»، كما يقول اليائس الأكبر إميل سيوران.

في هذا الكتاب، حاولت أن أكون نفسي، أن أضعها في مواجهة ساخنة مع النضج الإبداعي والاجتماعي الذي يطيب للجميع الاستغراق فيه، وأن أتركها تمرح مع أعطابها ونقائصها وتجاربها وقراءاتها، وأن أنظر إليها أيضا بقسوة، لا كحكم مسبق، بل كاختبار مستمر لما تريده هي وتجنح إليه.
فما معنى أن تكون ناضجا، وكل شيء يجبرك على الالتفات وإعادة النظر في كل شيء.. في الأخلاق العامة، في التأويل الأخلاقي المعطوب، في تاريخ التجربة المعرفية، في المتبدي والغائب، في النظام والفوضى، في الأدب والركاكة وعدم الإتقان؟
ما معنى أن تكون ناضجا والنضج انعكاس لتجربة عامة، بينما الأسلوب هو تحديدا النظر لكل الأشكال من بعيد، والحرية هي تحديدا عدم وجود أي شكل؟
ما معنى أن تكون ناضجا، وأن تكون كاتبا؟ هل تضع لكتابتك ربطة عنق لتكون مثيرا للإعجاب، ومستحقا للإطراء، أم تقول «الحياة جميلة يا صاحبي»، كما قال ناظم حكمت، وتنصرف إلى حال ارتباكك النابع من الهامشي والمؤقت والعابر وغير الحقيقي؟
إنني دائما أطرح على نفسي السؤال التالي: ما معنى أن تكتب بشكل لائق؟ وهو ما حاولت تقديم إجابات عنه، من خلال الإيمان بضرورة تجنب الوقوع في البراءة بكل الأشكال الممكنة. الإيمان بالشك في المكتوب والمقروء. حاولت أن أرغم نفسي على ألا أكون مجرد ناسخ، مع أن حقيقة الكتابة هي النسخ، والتنويع على الأصل، واستدعاء الحمض النووي للنص الأول. وبطبيعة الحال، انتبهت إلى أن النصوص الفارقة في تاريخ الأدب كتبها ذلك السعي الجهنمي الحارق نحو الاكتمال. وبهذا المعنى أيضا أدركت أن الناقص هو المطلق واللانهائي، أما المكتمل فهو المهمل والمتوقع. إننا نكتب الأدب الجديد بالركاكة، وليس بالبلاغة. والسؤال هو: كيف يمكن للكاتب أن يكون «بليغا»، إذا لم يعثر على أسلوبه الخاص، وعلى الصوت غير المشوه الصاعد من أعماقه. فإذا كانت البلاغة هي حسن البيان وإدراك غاية الوصول، فإن الركاكة انحياز للتسكع دون غايات أو وعود.
إن الكاتب «الركيك» هو من يعبس في وجه الاتساق، وهو الذي يستطيع أن يصيب «الأوزان» و»الأجناس» و»القوالب الأدبية» كلها بنوبة قلبية.
لا أكتب لأسلي الآخرين. ألا يفعل جميع الكتاب ذلك، حتى أولئك الذين يبرعون في تحطيم ذواتهم، لأنهم يعون جيدا أنهم عالقون في هذه الأرض، وأن لاشيء لديهم ليفعلونه سوى نسف ما هم عليه، ولا يستطيعون تغييره على الإطلاق؟.. هذا ما انتبه إليه كاتب استثنائي مثل «فيرناندو بيسوا» الذي استخدم تأملاته الجمالية في إحساساته، دون أن يأخذها على محمل الجد، حتى لا يقتله الضجر. إنه يكتب، لا ليُسلي، بل ليَتَسلى. وبهذا المعنى، لا بد أن نطرح السؤال التالي: هل يمكننا أن نمارس التأمل الجمالي في علاقاتنا بالأشياء على نحو محايد وبارد؟ هل نستطيع أن نتسلى ونحن رهائن إحساس استكشافي هائل؟
إنني أكتب – أو هكذا أزعم على الأقل- لأشتغل ضد ذاتي ما دمت مدركا سلفا بأن كل كتابة تحمل أسباب نقصها أو موتها في ذاتها. أليس كل كتاب ينبغي أن يكون موسوما بالنقص، كما يقول صاحب «كتاب اللاطمأنينة»؟.
إن الاكتمال، بهذا المعنى، لا يتحقق إلا بالدخول في تجربة تدمير طويلة الأمد للذات، ولأوهامها، ولاستغراقها السعيد في تعلقها بما تكتبه. ولهذا، فالكتابة التي أحث الخطى نحوها هي تلك التي لا يعوزها النقصان، تلك التي لا مآرب لها خارج الصراع مع الوحش المرعب الرابض في أعماق الإنسان..
إن كل رفض للتسويات الممكنة مع ما يجعلك «اعتياديا» كـ»أكل الولد التفاحة» وباردا كنائب الفاعل، يفرض هذا النوع من الانتقال بين الأجناس الأدبية. القصة ليست قدرا، ولا إرغاما. القصة، كما القصيدة والرواية والمقالة التأملية، مجرد ذريعة لإدراك المعنى الأصلي لما يستحق أن يكون كتابا. ليست كل الكتب كتبا، وليست كل الكتب جديرة بالقراءة، وليست كل الكتب مشى كاتبها فوق هاوية ليكتبها. هناك الكثير من الحبر، والكثير من الادعاء، والكثير من الدجل وعدم احترام القراء. الكتاب هو الذي يمشي وحده، وليس مطلوبا منه أن يمشي على الأرض (النسق) التي مر منها الآخرون، بل الرهان الأساسي هو أن يمشي خارج الأنساق متأبطا غير قليل من الزَّلات والأخطاء والمروق الأخلاقي والديني والسياسي، وعلى وجه التخصيص المروق الذي يحافظ على مذاق اللحم المعضوض للغة في الأسنان؛ لا لترتفع هذه اللغة وتتحنط وتُعْبَد، بل لتصبح سريرا واسعا لكل سقوط ممكن. ولعل هذا ما نفهمه من سيوران حين يصرخ: «كل كتاب هو انتحار مرجأ».
لم يعد مهما عندي أن يكون النص قصة أو قصيدة أو أي شيء آخر. بل المهم هو أن أكتب ما يساعد على التدمير والمحو والانفصال، والغاية في نهاية المطاف هي أن يكبُر الكتابُ طولا وعرضا، وينمو داخليا نمواً لانهائياً دون أن يشيخ. المهم هو أن أتعلم كيف أمشي وحدي في الزحام، أن أحفظ طريقي عن ظهر قلب، وأن أخرقها وأمزقها حتى لا تصبح حجا أو طريقة.
صحيح أنني عُرِفْتُ في المغرب كقاص، لكنني بدأت شاعرا، وما زلت مولعا بالتجارب الشعرية الفارقة، تلك التي لا تشبه إلا نفسها. وحتى في القصة كنت وما زلت أتعقب «الشعري» و»المجازي» و»الاستعاري».. غير أن اللقاء مع الكتب الكبرى، ومع المفكرين والفلاسفة والكتاب الاستثنائيين، يجعلك تعيد النظر على نحو جذري في كل الأرشيف.
أما بخصوص ما الذي أضافته لي القصة، فأعتقد أنها ساعدتني على اللقاء مع قامات أدبية عالية، ومع أشكال جديدة ومدارس متنوعة في الكتابة، كما مكنتني من الوقوف عن كثب على العديد من التجارب والقراءات، وعلى التمييز بين معنى أن تكتب بالحكاية ومعنى أن تكتب بالدال.

الكاتب : سعيد منتسب - بتاريخ : 19/01/2018