مقالتي هذه للجميع، وهي إلى لا أحدٍ، في آن

أحمد المديني

كلُّ ما يُكتب، يُنطق، يُتهجّى بحروف، ويُنسج بكلمات، يُوجَّه لمخاطب. البريد استعار من اللسانيين مصطلحيْ المرسٍل والمرسَل إليه، يرطِنهُما طلبةُ اللسانيات بإفراط، ويُتداولان في مكاتب البوسطة. من أشقّ وأدقّ مهامّ الكاتب في أيّ موقع استعمل فيه الكلمة، الأدبي والفكري خاصة، أن يَعرف لمن سيرسل الخطاب، وكيف. بالطبع، الصُّحفي حِلٌّ من هذا السؤال الحرِج، وإن حوصر بمتطلبات أخرى من قبيل سياسةِ المنبر، المُباحِ والمحظور، ثقافةِ المحيط ونوعِ جمهور متلقيّه. في أي حال، يصل بعد عثراتٍ ومِراسٍ إلى القفز على هذه الحواجز ويُنجز مهمّته. لكني أشك، وهذا بحكم تجربة موثّقة، أنه ينصرف مطمئناً بعد كتابة الافتتاحية والتقرير الإخباري والتعليق المناسب، أعني الصحفي المسؤول والمهموم برسالة، على غرار وضعية المشتغلين في منابر الإعلام المغربية في وما مضى من عهود سابقة، من جميع الاتجاهات يمينا ويسارا، فلكل قضيتُه ومذهبُه ينافح عنه وله أشياعٌ مناصرون ورأيٌ عام يسعى لصُنعه.
يبقى هذا الصُّحفيُّ مهموماً بشاغلٍ مِلحاحٍ لا يفرَغ بالُه وتُفرَج غُمّتُه إلا إذا بلغت الرسالة ُإلى المرسَل إليه، وأحدثت الصدى، متوقَّعاً، محسوباً أو متوهَّماً، قريباً وبعيداً، المهم تَجاوبُ الصدى. لن أخوض في طُرق حدوثه وسيرانه ووسائل التأثير،وأساليب الصياغة، ومحتوى الخطاب، لها مقتضياتٌ من تحصيل الحاصل يعِيها المحترفون، هؤلاء قِلّة، لذلك الصحفيون الجيّدون نادرون نُدرة الكتّاب المبدعين والمفكرين النابغين،وليُعلم أن حديثي لا يعني من يخطّ سطرين. حسبي هذا التنبيه،أعتبر به صنفاً من أصحاب القلم في المجتمع لهم دورٌ نافذٌ بما ينتجون ويُفترض أنهم بواسطته يؤثّرون، مهمتهم أكبرُ من مَلءِ صفحاتٍ بما يسُدُّ مسَدَّ الخبر.
بيد أن الأمر أعقدُ من هذا بالنسبة للكاتب، للشاعر، للمفكر، لكل حامل قلمٍ يبسط أمامه صفحةً أو قبالته شاشة بيضاء يتبادلان نظراتِ التحدي والإغراء والتساؤل والتعجيز وفعلَ الكَرّ والفَرّ. سنتفق فرضاً أن الكاتب الذي يجلس إلى حاسوبه يعرف إلى حدٍّ مُعين ماذا سيكتب، ثم وهو ينفخ سيجارته أو ينكش شَعره إن لم يكن أصلع، يراود الأفكارَ عن مصادرها إن كان باحثاً، ويروّض النصوصَ وهو يحلّل ويصنّف ويستخلص؛ فإنْ شاعراً خيالُه يصطاد من بستان البلاغة الصورَ والوعولَ وغزالاتٍ شاردة ليبوح بهواه ويرسُم للمحبوب أجملَ هيئة، وإلا قاصّاً وروائياً يتدبّر كيف يروي الحكاياتِ ويسرد الأخبارَ يجدِلها مع ناسها وأوصافها وعوالمَ تَمرَح فيها لتأتي محبوكةً ومعقولةً بتوافقٍ مع أصحابها ولها مُرام لتُصيبَها، وكم يجمع هذا الكاتبُ ويطرح، يحمِل إلى الشهر الثالث ثم يُجهِض، خلافاً لمن يستسهلون ويتعجّلون همّهم صورةٌ في موقعٍ وخبرٌ في جريدة ليتألقوا ويتمنون لبعضهم صباحا مساء وبينهما (مزيد التألق)، ما أعسرَها الكتابةُ ما أعذبَها أشقاها أغناها أبهاها أخطرَها أدهاها وطبعا لمن يعرفها حقّ قدرها وأثمانها وما يمكن أن يؤدى إذا توجّب ذلك في سبيلها فلا تكون لغطاً وزبداً ولا غُثاء سيل؛لا!
هذا جلُّه كلام، إذ تبقى مثل الصبابة لا يعرفها إلا من يعانيها، وما قلت السابقَ إلا تذكيراً لمن يستسهلها، من يسترخِصها من الجاهلين، وهم غير الأميين، لا يُعنى بأهلها، وكيف له فطنةً وذكاءً وصبراً أيضا أن يُرخي السمع وينحني إجلالا لكاتبٍ أو مفكر يدّعيان بفقرهما المدقع أنهما يملكان العالم ويفتحان الآفاق ومستقبلا ينقذ الإنسان من جشع الأغنياء الأغبياء، لكم يُجنّ جنونُهم،دهشين يرون ناسا غيرَهم يفتخرون ببضع كلمات فقط، ويتنفسّون أحراراً في الهواء.لكن ما لا يخطر ببال هؤلاء، وآخرين، أن أعقد ما يواجهه الكاتب في السّر خاصة، وخْزاً في القلب، ضميمةً في الصدر ودبيباً تحت الوسادة وهيولى فوق الهُدب ومع كل طُرفة عين سؤالا على اللسان وعند حركة الأُنمل وهو يرقن الحرف يزوِّجُه بالحرف ليضع الكلمة المبتغاة؛لمن أكتب؟ كاتبٌ حقيقيّ يتقلب دائما فوق جمر هذا السؤال، فإن لم يُحسَّ به ولا بباله خَطر، ليتركْ هذا الأمر لأهله، قد استشرت في حقله حقا الطفيلياتُ وفسَدت العُدّة وفدَح البلاء، لا حُلّةٌ ولا معنى جلّه تلفيق وهباء، طبعا لا أحد سيسُدّ الأفواه تثغو بالرُّغاء، ما أضيعَ أن تغطّي جثة بكِساء.
سيُقال القارئ، بداهة، وبعضهم صار يسميه(المتلقي) جِزافاً، يتصوره مرادفاً، بينما الثاني هو مستقبِل العمل، متلقّيه الموجّه إليه خصيصاً يتفاعل معه ويصبح طرفاً فيه، وفي سياقه استُعمل معنى (أفق الانتظار) اختص بهذا المتلقي الذي يحترق مضجعُ الكاتب كل ليلة كي يقترب منه ويخاطبه ويلبّي مطلبه، غنيٌّ عن القول لا بد أن يعرفه حِسّاً ووجدانا ورِغاباً وانتظارات، حتى ليكاد يكون هو، وعندما يصل إلى هذه المرتبة، وقد حلّ فيه، استوعبه حتى النخاع، تمثلَ رؤية عالمه سيبني صروحَها وبروجَها سيتلفظ بخطابها ويشخّص قيمها وغير هذا مما يدركه باكتساب الثقافةِ وخبرةِ الحياة، وكذلك بانتمائه إلى صفٍّ إنساني على صعيد المبادئ والمُثل، عندئذ يا سادة لا يَسأل الكاتب لمن أكتب، فالسؤال انتماء في (الرأس وفي القلب) بعبارة الراحل الكبير إدريس الخوري الذي كتب منذ البداية بالفطرة للخاسرين والمحرومين والحالمين، مثله.
سبب (نزول) هذه المقالة في أساسها ما قرأته للروائي المصري القدير إبراهيم عبد المجيد، كتب في الصيف الماضي سلسلةَ ذكريات وخواطرَ في جريدة (النهار)اللبنانية وضع لها عنوانا وجدته طريفا وهو في حد ذاته دال، سمّاها: «رسائل إلى لا أحد». لا داعي للمماحكة هنا، فالرسالة هي الطرفُ الأساس المتبادَل بين المرسِل والمرسَل إليه المشارِ إليهما أعلاه. وهذه أيضا طريقةٌ فنيةٌ يستعملها بعضُ الكتاب لتسويغ تعبير، ومعلومٌ أن الترسّل من فنون القول، قد أحسن عبد المجيد استخدامَه ويا ما باح به واستعاد ذكرياتِ الماضي تنكيتاً وتبكيتاً بالحاضر. لكن مرماه البعيدُ وقد أعياه الكلامُ وغدا كمن يصيح في واد، واختفى كلّ أحد، لا أثر لا صدى بعد، فأرسل رسائلّه إلى لا أحد؛ من الطريف أنها كانت تُنشر خصيصا يوم الفراغ الأحد!
حين يتجاوز الكاتب العربي عتبةَ الدغدغة الذاتية، فهو يكتب اليوم، وبإحساسٍ عنيدٍ بالمسؤولية تجاه مجتمعه، ليخترقَ بصعوبة الجلدَ اليابس لليأس ويُرسل الأنفاسَ الأخيرة منه كي لا يقال إنه مات ويشمّت فيه كثيرون هوايتُهم تكديسُ الجثث ليبِيضوا وحدهم ويصفِروا. هو لا يكتب لنفسه، وإنما للمتلقي كما ورّطنا فيه الألماني إيزر(IZER) لقارئٍ، لشعبٍ، وحتى لمطلق، بحُلمِ الأنبياء، وإرادةِ الدّعاة يرسل النداءَ ويتطلع إلى الجواب، عسى غداً يأتي الصدى، وإلا فالكلام صدأ، وبحسرة أطلقهما شاعر العربية الحديث عبد الوهاب البياتي منذ سنة 1965 ساءل قمره الحزين:»(…) فلمن تغنّي الساحرات/ والليلُ مات/(…) أهكذا تمضي السنون؟ ونحن من منفى إلى منفى ومن بابٍ لباب/ نَذوي كما تَذوي الزنابقُ في التراب/ فقراءُ يا قمري نموت/ وقطارُنا أبداً يفوت» ولن أسمع الجناز: «مدنٌ بلا فجر تنام/ ناديتُ باسمك في شوارعها/فجاوبني الظّلام».

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 26/10/2022

التعليقات مغلقة.