من العاصمة .. الأخلاق التشريعية
محمد الطالبي talbipress@gmail.com
لم يعد ما يُتداول داخل المؤسسات الرسمية، من مجلسي النواب والمستشارين ومن تقارير هيئات الحكامة، مجرد إشارات عابرة إلى ظواهر الاختلال. فحتى ذلك الحديث المنمّق عن “الإثراء غير المشروع” لا يلامس إلا جزءًا يسيرًا من واقع أكثر قتامة، واقع يشير – بوضوح فجّ – إلى ممارسات تُقارب النهب الممنهج للملك العام والحقوق الجماعية، وإلى اعتداءات صريحة على أحلام المغاربة وثقة المجتمع في مؤسساته.
وما زاد الصورة تعقيدًا، ما حمله النقاش الذي دار على الهامش خلال مناقشة مشروع قانون المالية الأخير، في عمر حكومة غير مأسوف عليها، من معطيات وتسريبات تُعزز الشكوك حول تضارب المصالح وتبادل المنافع داخل الأغلبية. فالمشروع نفسه حمل اتهامات صريحة بمنح امتيازات ومكاسب خارج إطار القانون والعدالة، وبغطاء سياسي يُفترض أنه مُسخّر لخدمة الصالح العام لا لخدمة شبكات النفوذ.
الأخطر ما صدر عن منتخبين ووزير أيضًا من تأكيدات تفيد بوجود تعديل برلماني يفتح الباب أمام خمسة مليارات درهم ستستفيد منها شركات التأمين بجرة قلم في نص تشريعي عُرض أمام ممثلي الأمة. تعديلٌ مرّ تحت لافتة الأغلبية، هدفه تمرير بنود لا تخدم المواطنين بل تخدم لوبيات ضغط قادرة على التأثير في صناعة القرار وتوجيهه.
الضحية هنا ليس سوى المواطن البسيط، تحديدًا ضحايا حوادث السير الذين يعانون أضرارًا مادية وجسدية ونفسية، ويُنتزع اليوم جزء من تعويضاتهم المستحقة، رغم أن الضرر لا يُجبر مهما بلغت قيمته. هؤلاء الذين كان من المفترض أن تحتضنهم التشريعات، يجدون أنفسهم أمام منظومة تُقلّص حقوقهم لصالح مصالح كبرى.
والأمر يزداد خطورة حين يخرج وزير ليقول، أمام الرأي العام، إنه التزم مع مجلس النواب بألا يسمح بأي تعديل على مشروع قانون لا يزال قيد الدراسة في مجلس المستشارين. فهل يدرك هذا المسؤول معنى ما يقول؟ هل تجاوز – بجرأة محسوبة أو بعفوية غير مفهومة – استقلالية الغرفة الثانية؟ أم أنه نطق بما يكشف عن خلفيات أعمق تتعلق بقطاع استراتيجي يمس المغاربة جميعًا؟
إن السؤال اليوم: هل أصبحت بعض المصالح واللوبيات أهم من الوطن؟ أم أن في الأمر ما هو أبعد، وما لا يقال؟
الله أعلم… لكن المؤكد أن القلق مشروع، وأن الغموض يفتح الباب أمام كل التأويلات.
حمى الله هذا الوطن الآمن.
عندما يصبح هذا النوع من الخطاب يُتداول علنًا، وبالفم المليان، في وطن يطمح إلى سيادة القانون، فهل يمكن أن نواصل العمل بمنطق “أغلبية لا تُراجع”؟
ألا نحتاج إلى آليات مرنة وحازمة لمراجعة قرارات الأغلبية حين لا تستند إلى الشرعية العقلانية ولا إلى الأخلاق السياسية؟ حين تتحول إلى أدوات لخدمة امتيازات غير مستحقة أو مكاسب مرتبطة بشبكات نفوذ؟
إن البرلمان، في جوهره، مؤسسة تشريعية ورقابية وُجدت لخدمة الأمة والناخبين الذين منحوا ثقتهم. وليس من دوره أن يتحول إلى مجرد آلة عددية تُمرّر مصالح لوبيات اقتصادية على حساب المجتمع، أو منصة تُستغل لتصفية الحسابات وتوزيع المنافع.
لقد بات ضرورياً إعادة طرح سؤال الأخلاق في التشريع، وإعادة بناء العلاقة بين السلطة التشريعية والمجتمع على أساس الشفافية والمحاسبة. فالديمقراطية لا تُختزل في حساب المقاعد، ولا تُقاس بقدرة الأغلبية على تمرير القوانين، بل تُبنى على احترام الدستور، وصون المال العام، وحماية المواطن من كل استغلال أو تلاعب.
إن ما يطفو على السطح اليوم يفرض نقاشًا وطنيًا واسعًا حول مخاطر “الاتجار في التشريع”، وحول ضرورة تحصين المؤسسات من أي اختراق يهدد مبدأ العدالة التشريعية. فالقوانين ليست صفقات، والتشريع ليس امتيازًا، والبلد أكبر من مصالح اللوبيات.
الكاتب : محمد الطالبي talbipress@gmail.com - بتاريخ : 15/11/2025