من العاصمة : «السيكيرتي».. عبيد العصر الحديث

محمد الطالبي

تكاد أزمة الصحة تُلصق ظلمًا برجال ونساء “السيكيرتي”، هؤلاء الذين يحتاجون هم أنفسهم إلى من يؤمّنهم ويحميهم من نهش لحمهم وامتصاص قوتهم اليومي. فهم ضحايا منظومة تشغيل تقوم أساسًا على استغلال عرقهم والعيش على حساب تعبهم اليومي.
هؤلاء المغبونون يتقاضون أجورًا هزيلة، ويعيشون بمنطق العبودية الحديثة وانعدام الاستقرار المهني، رغم أن مناصبهم في الأصل وظائف قارة تخلّت عنها الإدارات العمومية والوزارات، وجرى تفويتها لشركات من الباطن تجني المليارات من المال العام مقابل خلق الهشاشة الاجتماعية.
وبحسب معطيات تم الاطلاع عليها من داخل ملفات هؤلاء العاملين، يتبيّن أن بعض الشركات المهيمنة على هذا القطاع تُسيطر فعليًا على “جيش” من عمّال الحراسة المنتشرين عبر مختلف المؤسسات العمومية، وتُديرهم بمنطق الربح السريع، دون احترامٍ لأبسط الحقوق الاجتماعية والإنسانية.
يعمل رجال ونساء “السيكيرتي” في قطاع التعليم والصحة والتشغيل وباقي القطاعات العمومية، دون أفقٍ مهني ودون استقرارٍ اجتماعي أو قانوني. وضعيتهم هشة إلى حدٍّ يجعلهم يؤدّون كل ما يُطلب منهم، حتى ما يتجاوز قدراتهم وصلاحياتهم، لأنهم ببساطة محرومون من الانتماء إلى النقابات أو الجمعيات، وممنوعون من الدفاع عن حقوقهم.
فالهشاشة التي فُرضت عليهم تجعلهم عرضة للطرد في أي لحظة، إذ يشتغلون في إطار ما يسمّى بـ”المرونة في التشغيل”، وهي في حقيقتها مرونة في الطرد، لأنهم يوقّعون عقود إذعان تحت ضغط الحاجة والفقر والخوف، عقود لا تضمن كرامة ولا أمانًا مهنيًا.
ورغم كل هذا، لا تتحرك الجهات المسؤولة؛ لا وزارة الشغل، ولا المؤسسات الحكومية المعنية، لأن الحكومة نفسها هي صاحبة “الباطرونا” ورعية هذا الاستعباد المقنّع الذي يُعيدنا إلى عصور النخاسة، ولكن بربطة عنقٍ وقانونٍ حديثٍ يبرر الظلم باسم المرونة والنجاعة.
لقد تحوّل “السيكيرتي” في الواقع إلى موظف الظل الذي يضمن استقرار الإدارات والمرافق العمومية دون أن يُذكر اسمه أو يُعترف بجهده. فهو أول من يحضر وآخر من يغادر، يتلقى الأوامر من الجميع ويُحاسَب وحده على الأخطاء، في حين أن من يستفيد من عرقه يعيش في المكاتب المكيفة ويوقّع الصفقات السمينة.
هؤلاء الرجال والنساء ليسوا أرقامًا في عقود شركات المناولة، بل هم آباء وأمهات يواجهون قسوة الحياة بصدور عارية، ويستمرون في أداء واجبهم رغم الجوع والمرض والمهانة. ورغم أن القانون يفترض أن يحميهم، إلا أن الواقع يقدّمهم دائمًا كفئة “زائدة عن الحاجة”، يمكن الاستغناء عنها بجرة قلم.
إن السكوت عن وضعية “السيكيرتي” هو تواطؤ صامت ضد كرامة الإنسان العامل، وضد كل القيم التي يُفترض أن تؤسس دولة الحق والقانون. فكيف يمكن لدولة تتغنى بالعدالة الاجتماعية أن تقبل باستمرار هذا الشكل من العبودية المقنّعة داخل مؤسساتها؟
إن الدفاع عن “السيكيرتي” اليوم ليس دفاعًا عن فئة مهنية فحسب، بل هو دفاع عن معنى العمل الشريف، وعن كرامة الإنسان الذي يُنتج الأمن مقابل اللااستقرار، ويقدّم الخدمة مقابل التهميش. إنهم الوجه الخفي للظلم الاجتماعي، وضمير الصمت الذي يصرخ في وجوهنا جميعًا.
وفي النهاية، يُقدَّم “السيكيرتي” دائمًا كالحائط القصير الذي تُعلّق عليه بعناية كل الأخطاء وتُرمى عنده كل المصائب، بينما يُترك المتسببون الحقيقيون في الظل، يوزّعون العقود والغنائم في صمت، باسم القانون والشفافية.

الكاتب : محمد الطالبي - بتاريخ : 18/10/2025