من العاصمة .. القتل الرحيم للأحياء الآيلة للسقوط

محمد الطالبي talbipress@gmail.com
شكلت حادثة انهيار عمارة بفاس، والتي خلفت قتلى ومصابين، حدثًا ماساويًا وإنسانيًا يتكرر كل مرة. هي ليست مجرد واقعة معزولة، بل جرس إنذار متجدد يفرض علينا إعادة طرح سؤال جوهري: من المسؤول عن حماية الأرواح من خطر المباني الآيلة للسقوط؟ في مدن كفاس، والدار البيضاء، والصويرة، ومراكش وغيرها، حيث المدن العتيقة تتجاور مع المباني العملاقة، وحيث تتعايش آلاف الأسر مع جدران مهددة بالسقوط، في ظل عجز طويل الأمد وتدبير هشّ.
القانون 94.12 حمّل المسؤولية للملاك وأعطى لرؤساء الجماعات صلاحيات واسعة، لكن الممارسة تكشف ضعفًا كبيرًا في التطبيق، وترددًا في إصدار قرارات الإفراغ أو الهدم، بل وتغاضيًا مزمنًا عن تقارير اللجان التقنية. وكم من بناية انهارت دون أن تشعر أي جهة، رغم علامات الخطر الواضحة.
الخلل لا يكمن في غياب النصوص، بل في غياب سياسة وطنية شاملة تُعبّأ لها الموارد المالية واللوجستيكية بحجم ما تتطلبه العملية، حمايةً للأرواح البريئة. سياسة تضع السكن الآمن في صلب رؤية الدولة، وتتجاوز منطق الحلول الجزئية أو التعامل الموسمي مع الكوارث. فقد أصبح من الضروري أن تتحمل الدولة، وليس غيرها، مسؤولية إعداد الدراسات وتهيئة المناطق الصالحة للبناء، مع ضمان البنيات التحتية والمرافق الاجتماعية التي تمنح الحياة لأي حي سكني.
بعيدًا عن التجارب السابقة، حيث أُطلقت ما أصبح يُطلق عليه إعلاميًا «يد مافيا العقار» تحت شعارات التعمير والتوسع العمراني، أنتجت أحياءً تفتقر لأبسط شروط العيش الكريم: أقفاص إسمنتية لا تصلح لسكن فرد، فبالأحرى أسرة ممتدة. كما أنه أصبح إلزاميًا ربط السكن بالمعايير التقنية لمقاومة الزلازل أو الفيضانات وكل الأخطار المحتملة. رغم أهمية كل هذا، لا يكفي إذا لم يُدرج ضمن رؤية متكاملة تحترم الإنسان وكرامته.
ولا بد من الإشارة إلى مفارقة مؤلمة: في الوقت الذي تتفاقم فيه أوضاع السكن غير الآمن، لا نجد هذا الموضوع حاضرًا بما يكفي في النقاش العمومي، لا في البرلمان، ولا في برامج الأحزاب، ولا حتى في أولويات الإعلام. وكأن الأرواح التي تسكن تلك الدور المهترئة لا تساوي الكثير في ميزان الاهتمام الوطني.
ويجب أن نعترف، بوضوح وصدق، أن لكل مبنى عمرًا افتراضيًا يرتبط بعوامل كثيرة: طبيعة التربة، وجوده في مجرى وادٍ أو على سفح جبل، ونوعية المواد المستعملة في البناء. لذلك فإن «القتل الرحيم» لبعض الأحياء والمباني لم يعد خيارًا، بل ضرورة إنسانية عندما تتحول إلى خطر قائم. أما التشبث الأعمى بالسكن أو التعلل بالموروث الحضاري، فلا يبرر أبدًا الصمت والانتظار حتى تأتي الكارثة. ففي اتخاذ تدابير السلامة، لا في التغاضي عنها، تكمن الحضارة والتمدن.
السكن المهمل من أجندات الفاعلين الحقوقيين والسياسيين، هو في حقيقته صمام أمان ضد الأخطار، ورمز من رموز الكرامة الاجتماعية. آن الأوان لأن يُنظر إليه باعتباره حقًا مقدسًا، لا مجرد ملف ثانوي، ولا قضية تُفتح فقط عند وقوع الفاجعة.
لذلك، فإن مسؤولية الدولة، كما الجماعات، تقتضي التحرك وفق رؤية استباقية، تنطلق من الإحصاء الشامل وتحيين اللوائح للمباني المهددة باستمرار، مرورًا بتصنيفها، وانتهاءً بتوفير البدائل العاجلة قبل فوات الأوان. نحتاج إلى لجان للوقاية لا تشتغل فقط بعد الانهيار، بل تعمل على منع حدوثه من الأساس.
في النهاية، لا نحتاج لمزيد من بيانات النعي في فاس أو غيرها، بل نحتاج إلى إرادة سياسية وشجاعة مؤسساتية تقطع مع منطق الإهمال، وتعيد للمواطن حقه في العيش الآمن تحت سقف يحميه، لا قبراً ينتظره !
الكاتب : محمد الطالبي talbipress@gmail.com - بتاريخ : 10/05/2025