موضوع الحريات الفردية من المشكلات التي نستطيع أن نتقدم خطوات حاسمة على طريق حلها

عبد الرحمن العمراني

 

نظم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية المنتدى الثاني من المنتديات الاشتراكية حول الحريات الفردية بفاس، وقد عرف مشاركة أسماء وازنة بمساهمات متميزة ننشرها على صفحات جريدتنا. اليوم مع عبد الرحمان العمراني

الورقة التي أتشرف بتقديمها في هذا اللقاء تتوزع على محورين أساسيين، في المحور الأول  أقدم  ثلاثة معطيات منهجية تمهيدية  تتوخى المساهمة في  وضع هذا النقاش في سياقه العام،يتلوها في المحور  الثاني تقديم بعض المنطلقات،تتوخى التوضيح بقدر ما تتوخى فهم مضمرات وطبيعة مواقف أطراف هذا النقاش من  الرافضين لفتحه أصلا  وكذا فهم طبيعة هذا الطابع الدراماتيكي المرافق للحديث  حول هذه القضية المجتمعية، كما تتبعنا أطواره في المدة الأخيرة،سعيا في النهاية إلى تقديم ما اعتبره شرطا أو مدخلا أساسيا للتقدم خطوات على سبيل الانفراج القانوني  le denouement juridique لبعض ما يندرج ضمن الحريات الفردية، على الأقل تلك الأكثر مدعاة للانشغال والقلق السياسي والاجتماعي والحقوقي في المرحلة الراهنة  (اقصد العلاقات الرضائية والوقف الإرادي للحمل).

معطيات منهجية تمهيدية

أولا: بخصوص النقطة الأولى تحضرني هنا  مقولة ماركس الشهيرة، إن المجتمعات  الإنسانية لا تطرح من المشكلات إلا ماهي قادرة على إيجاد حلول له.
ولعلي أحور هذه المقولة  لكي تصبح أن مجتمعنا لا يمكن أن يطرح من المشكلات إلا ما هو قادر على الأقل على التقدم خطوات أساسية على طريق حله أو حسمه.
. وبما أن النقاش العمومي في موضوع الحريات الفردية قد انطلق، فمن الطبيعي، والمشروع – رغم كل أصوات وأطروحات  الممانعة- ،سواء منها  المعلنة جهارا والصاخبة، أو تلك المنطوقة همسا – من الطبيعي أن  تحدونا  الثقة وتحدونا الرغبة والأمل  في أن يندرج  هذا الموضوع او يدرج  ضمن صنف المشكلات التي يستطيع مجتمعنا أن يتقدم خطوات حاسمة على طريق حلها.
وبمعنى آخر فإن إشكالية الحريات الفردية هي في تقديرنا من هذا الصنف، من هذا النوع من المشكلات التي نحن قادرون، من خلال تبادل التصورات  والأفكار  والتحليلات بطريقة عقلانية،و ليس سجالية أو أيديولوجية محضة، – على رسم ملامح حلها في المستقبل ،إن لم يكن المستقبل القريب جدا، فعلى الأقل  المستقبل المنظور. وفي كل الأحوال خلال حياتنا نحن الأجيال القديمة.
ثانيا: إن هذا النقاش ليس نقاش نخبة سياسية أو ثقافية او أكاديمية، ولا هو نقاش نخبة مغربة كما يطرح البعض بدعاوى ومنطلقات وخلفيات ومرجعيات متعددة ،بل هو نقاش مجتمع، نقاش مجتمعي يستجيب لانشغالات وهموم موجودة ,حاضرة في المشهد الماثل أمامنا، بل وضاغطة.
وليس صحيحا على الإطلاق ما ذهب إليه هذا البعض من  المنخرطين في هذا النقاش،والذي يحذرنا من عدم الخلط بين اهتمامات النخبة المترفة في كبريات المدن وفي الاحياء huppés في الرباط حي الرياض او المثلث الذهبي في محور gauthier  Racinec في البيضاء او palmerais في مراكش ،وبين اهتمامات عامة الناس، والحال أن المترفين والميسورين في الأحياء الراقية في المناطق المذكورة، وغيرها يجدون في الغالب أسبابا ووسائل وإمكانات خارج فضاء القوانين extra legal لتلافي الفضيحة  والعقاب والوصم  في قضايا تهم الحريات الفردية، فيما يصلى جحيم الوصم والعقاب معا البسطاء من الناس، والأمثلة في موضوع  العلاقات الرضائية ظاهرة بارزة لا تحتاج إلى تأكيد.

المنطلق المنهجي الثالث . كيف نسمي الأشياء بمسمياتها المعقولة

إننا في هذا الموضوع بالذات، في حاجة إلى النعت باستعمال  أسماء معقولة وموزونة وغير مطبوعة بالصفات الاطلاقية، سواء جهة أطراف الخلاف القائم أو جهة مواضيع  الخلاف، اذ من الضروري  ان نتجاوز  في هذا الموضوع بالذات ما يسمى اليوم في العلوم السياسية بـ الـ conspiracy theories. اي نظريات المؤامرة.
فما نلاحظه أن الفريق المناهض للحريات الفردية يقوم بشيطنة كل من يطرح موقفا او رأيا او اجتهادا او تحليلا  لا ينسجم مع منطلقاته هو . سالكا سلوك قلب الطاولة على المختلفين معه،  محيلا للعقيدة بمناسبة وبغير مناسبة إلى سهام يرمي بها الخصم to weaponise.
في المجتمعات الديمقراطية المفتوحة (حتى نستعير مصطلح كارل بوبر)  وبخصوص قضايا خلافية كبيرة مطروحة اليوم هناك في المجال العام  تتصل  بأصناف جديدة من الحريات والحقوق  يتم الحديث، عند توصيف الفريقين المتصارعين بliberal والـ illeberal. ولاتجري عملية الوصم الهوياتي   essentialisation  للمتصارع او المترافع  الحامل لأفكار وقيم ورؤى تخالف رأي الطرف المقابل. عندنا يأخذ الصراع والخلاف من طرف الرافضين لأي تغيير في التوازنات القائمة  صيغة الازاحة والأبعاد المولدة باستمرار  لمزيد من نظريات المؤامرة. ولنا أن نتصور صعوبة نقاش عادي في ظل هذه الممارسة الخطابية التي يتحول فيها  النقاش إلى  حملات كراهية وحروب بالكلمات أو المصطلحات الاطلاقية، أو حينما يقدم الخلاف من طرف الفريق الرافض للإصلاح  كما لو كان خلافا بين الملائكة والشياطين. وبالطبع وحتى نستعير كلام الروائي التشيكي ميلان كونديرا فإنه لا يمكن بناء فكر خلاق بلغة بلغةغير بناءة.
بعد هذه الملاحظات المنهجية التمهيدية أود أن أطرح سلسلة من المنطلقات فيما يبدو لي مداخل لعلها تشكل صورة خلفية  تساعدنا على إبراز ما يعوق النقاش العقلاني بخصوص هذا الموضوع الحيوي.واطرحها بالتتابع كما يلي.
المنطلق الأول.  يهم  النظرة الى حالة بعض الثنائيات عندنا، حيث يفضي الأمر إلى ما يسميه السيكولوجيون  le deni de réalité إنكار الحقيقة.
. العقيدة  والسلوكيات المجتمعية،  العقيدة والثقافة الثقافة  المعلنة والثقافة الممارسة.
في كل هذه المستويات، كما لاحظ المفكر والناشط الحقوقي الباكستاني مجيد نواز  (إسلاموي أصولي سابق تحول إلى أكبر مدافع عن إسلام معتدل ومنفتح، يعيش في لندن) يفيدنا التاريخ، تاريخ كل المجتمعات، التاريخ الحقيقي لا المؤدلج بان هناك بالضرورة وبحكم طبائع الأشياء، بخصوص تلك الثنائيات وبين طرفيها، مسافة قد تتسع أو تضيق  حسب الظروف والمراحل التاريخية ، ولكنها تبقى مسافة في كل الأحوال .
وبالتبعية هنالك مسافة قائمة في الواقع التاريخي في كل بقاع الدنيا  بين التعاليم العقدية بحصر المعنى وبحرفية النصوص  والمنطوقات الظاهرة، وبين ما يمارسه المجتمع ميدانيا عبر تطورات الأزمنة وتحولاتها. ذلكم هو الواقع في تعقده وتشعبه وثنائيته الحية.
ليس هناك عصر ذهبي، وعلى سبيل المثال لا الحصر  وندوتنا منعقدة بفاس، فلست واثقا من أن النسوة اللواتي يفترشن قطع الكارتون الصغيرة يبعن البغرير أو الشموع الملونة في محيط المولى إدريس اليوم هن أقل ورعا من جدات جداتهن ممن تواجدن هناك في القرون الغابرة.
ويحضرني هنا أيضا ذلك السجال الذي قام بين الزعيم جمال عبد الناصر في منتصف الخمسينيات وبين أحد المشايخ في موضوع فرض الحجاب،(حيث أنها مسألة إختيار شخصي حر  لا يجوز فرضها أو منعها بقوة القانون)، إذ قال عبد الناصر مبتسما وبنوع من التندر السجالي   وهو الذي كان يعرف أن إبنة الشيخ المذكور لا تلبس الحجاب: يا شيخنا أنت عجزت عن فرض الحجاب على ابنتك الوحيدة وتطلب مني أن أفرضه بالقانون على عشرين مليون سيدة  مصرية.
والإشكال إذن  والذي له علاقة بموضوعنا انه حينما يتعلق الأمر ببعض القواعدالمنصبة على المعيش الخصوصي وليس العام، ومنها ما يرتبط بالحريات الفردية  للناس نكتشف فجأة أننا نصبح نصيين  100/100 عقديين حتى النخاع، طهرانيين بالكامل، قواعديين من أعلى الرأس إلى أخمص القدمين ونبدأ في التفكير والتصرف بمعزل عن هذه الثنائية المكونة لحقيقتنا الاجتماعية والإنسانية والتاريخية كجزء من المجتمع الإنساني بتاريخانيته الفعلية لا  المتوهمة، ونبدأ في تبني مقاربة او منهجية المدرسة التي يسميها رجال القانون  وهم حاضرون اليوم معنا اليوم بكثافة بمدرسة الشرح على المتون.
إذن نقطة البدء  في تصحيح علاقتنا بالموضوع، تيسيرا حتى للاجتهاد، وربطا مع التقليد العقلاني الرشدي وتشجيعا له  ،هو الإدراك الواعي والاعتراف بهذه الحقيقة عوض  القفز عليها وتجاهلها   أو  – وهو ما حصل ويحصل- قبولها  في الاقتصاد والمعاملات ورفضها في المجال المرتبط بالمعيش الخصوصي.
المنطلق الثاني. لدينا خطأ شائع في ما يخص
موضوع  النظر إلى تطور الفكر في المحرمات والمباحات في تاريخ المجتمعات الإنسانية  بشكل عام.
إننا نعتقد باستثناءوية غريبة أننا نحن فقط معشر  المسلمين من عرف هذا النقاش حول الخصوصيات أو المعيش الخصوصي وعلاقته بالدين أو النصوص والقواعد العقدية.
والحال أن  كل المجتمعات الأخرى خلال  مراحل وفترات سيطرت فيها الأصوليات وتعطل فيها العقل أو وضع على الرف (أصوليات كانت متشددة لدرجة طرحت أن الحياة الخاصة يجب أن تؤطر بما كان يسمى في اللاهوت في أوروبا العصور الوسطى  بالجزء غير العقلي من الروح. هذه المجتمعات  عرفت  مثلنا مناقشات حول موضوع التجريم والأحكام القاسية الدينية في موضوع الحريات الفردية  وحتى في الجانب الاقتصادي مسألة الربا مثلا.
وأشير هنا من باب التوثيق ولمن يريد الاستزادة في هذا الباب أن  السيد الن بيرفيت الذي شغل منصب وزير العدل في حكومة جيسكار ديستان خلال السبعينيات في كتابه مجتمعات les societes de confiance وهي أطروحته في الدكتوراه ذكر العديد من الأمثلة بهذا الخصوص وقدم عددا من الأحكام les edits التي صدرت من طرف المؤسسات والمحاكم في مواضيع مختلفة بهذا الخصوص في موضوع الحريات الفردية والمعاملات الاقتصادية وقضايا أخرى تتصل بصميم الحياة الفردية.
إذن في هذا المستوى ليس لنا خصوصية مطلقة تميزنا عن باقي الأمم. الكل عرف هذا النقاش .والكل واجه مشكلة الاجتهاد وضرورات التوفيق بين العقل والنقل.
المنطلق الثالث – فوبيا الخوف من ضياع الهوية بأي تغيير يطرا  على التوازنات الموجودة أو إصلاح يمس القوانين.
إن من مضخمات الطابع الدراماتيكي لموضوع الحريات الفردية في النقاش الدائر، في الأوساط المحافظة  كونها تنزع عن العقيدة الطابع الثقافي العميق الذي يخترق هويتنا كمسلمين  وتحيلها  إلى مجرد قواعد ونصوص ونواميس شكلية  وتحصر  بذلك موضوع الاجتهاد والتأويل وإعادة القراءة وتقيده إلى أقصى الحدود.
والمؤكد أن جزءا كبيرا من السجال مع الفقهاء  الذي عرفه عالمنا العربي والإسلامي في موضوع الإصلاح والتجديد منذ رفاعة رافع الطهطاوي ومحمد عبده والافغاني والمجددين اللاحقين  كان يتميز بالخلاف الجذري  بين فريقين حيث كان هؤلاء المتنورون وهم مسلمون ورعون ما  في ذلك شك أو نقاش يدركون شيئا أساسيا عارضه في ما يظهر فريق الفقهاء المتشددين، وهو أن  العقيدة حينما تتخلص ممارستها من التأويلات السطحية والشكلانية، وينظر إليها كصانعة لثقافة وهوية عميقة تخترق الذات الحضارية للمسلمين فإنه لا خوف على ذوبانها او ضياعها أو son alteration، بإصلاحات تنطلق من نداء العقل وتستجيب للتطورات والحاجيات المستجدة.
خلال حرب الخليج الأولى كان إدوارد سعيد، وهو المسيحي، لكن الذي تربى في بيئة إسلامية، حينما كان يستدعى إلى القنوات التلفزية يشعر بالحاجة للدفاع عن الذات الثقافية الإسلامية كهوية  وكثقافة.
ويمكن بهذا الخصوص أن نطرح أسئلة  عريضة تبين عبثية الخوف من مناقشة موضوع الحريات الفردية والانكباب على معالجتها علاقة بفوبيا ضياع الهوية .
هل أضعنا هويتنا مثلا باعتماد قواعد القانون المدني والتجاري وقانون الشغل وغيرها من القوانين التي أصبحت جزءا من معاملاتنا القانونية العصرية؟.
هل ضاعت هويتنا لما أخذنا كبلد وكمجتمع يدين سكانه بالعقيدة الإسلامية بناصية الاجتهاد المنتج وقمنا بتغيير حاسم في مدونة الأسرة رفع الحيف عن النساء؟ علما أن الحدود المفاهيمية بين ممارسة الحريات الفردية  وبين الانحلال الخلقي والاباحية هي حدود واضحة ولا يمكن أن يقع التماهي بينهما لربح سهل في  مسار تبادل المواقف وحججها المدعمة كما يلجأ إلى ذلك الرافضون التعبير.
إن  الماينستريم التيار الرئيسي من المغاربة،وهم مسلمون معتدلون يؤدون الصلوات الخمس ويصومون شهر رمضان ويقراون سورة ياسين عند دفن موتاهم؟ ولا زالت نخبتنا من مختلف التيارات السياسية والفكرية والايديولوجية تمارس نفس هذه الممارسات.
ومعنى هذا أن العقيدة انغرست في الثقافة ومن العبث التخوف من ذوبانها  أو هلاكها بإصلاحات جديدة في منظومات القوانين الضابطة للحريات الفردية كما يتبادر إلى ذهن المصابين بفوبيا ضياع الهوية.
ثم كيف يتفاعل هؤلاء مع بعض الاجتهادات الرائدة لبعض علماء المسلمين من نوع ما تضمنته وثيقة الأزهر خلال تلك الفترة الساخنة من الربيع العربي والتي أقرت بالحريات الأربع في الإسلام ومن بينها حرية المعتقد وحرية التعبير والإبداع والبحث العلمي مدعمة ذلك بنصوص من داخل المرجعية لا من خارجها؟ والتي حددت علاقة إيجابية بين العقل والنقل.
وإذن ماذا؟
نصل إلى النتيجة وترتبط بمداخل تصويب النظرة لموضوع الحريات الفردية  في هذا الموضوع وهي في تقديرنا لا يمكن أن تنفصل عن تبني نظرة أكثر ديناميكية وأكثر انفتاحا بين العقل والنقل وتجاوز فوبيا الهوية بالشكل الذي أبرزناه والإقرار أخيرا بحقيقة أن الحريات الفردية  المنظمة  هي جزء أساسي من الحريات والحقوق في مجتمع يثمن حقوق الأفراد والجماعات كجزء من البناء  الديمقراطي المسترسل.

الكاتب : عبد الرحمن العمراني - بتاريخ : 23/01/2020