نبض المجتمع : «الوساطة الاجتماعية» و رهان حفظ الكرامة وصيانة الحقوق

حميد بنواحمان benouahman.presse@gmail.com

 

“تسريح ، طرد ، إغلاق … ” ، كلمات ثلاث ، من بين أخرى ، تمتح دلالتها القاتمة من قاموس قاس، يتمنى العامل / المستخدم / الموظف.. في قرارة نفسه، ألا يتناهى إلى سمعه صدى إحداها ، على حين غرة، قبل حلول لحظة التقاعد الرسمي ، وذلك تفاديا لعواقبها النفسية والاجتماعية الثقيلة، على المعني بها أولا ، وتوازن أسرته الصغيرة ثانيا ، وعلى علاقته المستقبلية ب “المحيط المجتمعي ” الكبير ثالثا .
قاموس ، للأسف، وبفعل الأزمة الشاملة التي تخنق الحركة الاقتصادية ، على المستوى الدولي ، أضحت مفرداته ” غير الرحيمة ” حاضرة بقوة داخل العديد من المؤسسات الإنتاجية المنتشرة عبر جهات المغرب المتباينة الحجم الاقتصادي، تعلق الأمر بالخدماتية منها ، أو الصناعية أو الفلاحية …، مع ما يعنيه ذلك من فتح باب المجهول أمام آلاف اليد العاملة القادرة على العطاء والدفع بعجلات النمو خطوات بعيدة إلى الأمام .
قساوة تدفع العديد من العمال/ المستخدمين المكتوين بنارها – إناثا وذكورا من شتى الأعمار – إلى طرق باب القضاء، التماسا ل “العدل والإنصاف ” ، فتصدر المحاكم، بعد اجتياز كافة مراحل التقاضي المضنية ، أحكاما نهائية تقضي بتعويضهم عن “الطرد التعسفي ” والتسريح الجائر “، لكنهم غالبا ما يصطدمون بإكراه يزيد من فداحة أوضاعهم ، عنوانه “عدم التنفيذ “، والانتظار اللامتناهي، حيث يحدث – في أحايين كثيرة – أن يدرك المشتكي / المتقاضي الأجل المحتوم فيغادر الدنيا الفانية وفي نفسه غصة من مرارة “الطرد من العمل “؟
وبحثا عن سبل بإمكانها التخفيف من وطأة “تراجع “النشاط الاقتصادي داخل هذه المؤسسة أو تلك،تشجع العديد من البلدان الديمقراطية ، داخل أوربا وغيرها ، اللجوء إلى “وسائل بديلة” لفض نزاعات الشغل التي تزايدت وتيرتها، في العقد الأخير، بفعل ضربات الأزمة الاقتصادية العالمية المتواصلة . ومن أبرزها نجد “الوساطة ” ، التي” تسعى لحل النزاع عن طريق صلح يرضي الطرفين ، بكيفية يحس معها كل واحد منهما بأنه غير خاسر وبأن الآخر غير رابح “.
وحسب تعريفات قانونية عدة ل” الوساطة ” ، فإن من أهم سماتها”المرونة والليونة “، وتعد ” مرحلة وسطى بين التفاوض والتقاضي” تساهم في ” حل نزاع الشغل بأيسر السبل وأقل التكاليف”، و”تبتعد عن طقوس المحاكمة التقليدية ، التي تنتهي إلى قرار يتخذه القاضي ، مما يخلق ، في الغالب ، نوعا من الضغائن والأحقاد بين الأطراف المتنازعة ” .
وقد سبق أن تم التوقيع ، سنة 2012، على اتفاقيات بين الاتحاد العام لمقاولات المغرب ومركزيات نقابية بغاية إنشاء “هيئة للوساطة” تسهر على فض نزاعات الشغل عبر إعمال “بدائل توافقية ” تحفظ المصالح ، وفق المتاح من الإمكانيات ، وتحول دون بلوغ نقطة اللاعودة ذات الفواتير الباهظة فرديا وجماعيا .
لكن ، للأسف ، يبدو أن الوعي بأهمية “الطريق الثالث ” أو “العدالة الصلحية ” ، كما تنعت من قبل فقهاء القانون ، في الحفاظ على الحد الأدنى من “سلامة ” العلاقة الشغلية وجعلها في منأى عن أي “انفلات” غير متحكم في تداعياته ، مازال في “مستوى جنيني”، وإلا لما تواترت صور أوضاع صادمة لعشرات العمال والعاملات أجبرهم الإغلاق الفجائي، لهذا المعمل أو ذاك، هذه الوحدة الصناعية أو تلك – على امتداد جغرافية البلاد – على الاعتصام داخل خيام بلاستيكية لا تحمي أجسادهم المتضورة عوزا من برودة الشتاء ولا تقيها من حرارة الصيف. حالات تصل درجة مأساويتها حد لجوء المعتصمين والمعتصمات إلى ” تسول” العابرين بمحاذاة “المنشأة الصناعية” أو “المؤسسة الخدماتية” المعنية بنزاع الشغل، وطلب مساعدتهم في تحصيل دراهم معدودات تمكنهم من اقتناء ما تيسر من ” خبز وشاي ” لسد رمق أبناء صغار لا حول لهم ولا قوة.
فهذه إحدى عاملات مصنع للنسيج بمدينة مكناس، وجدت نفسها في الشارع – صحبة أزيد من 600 عامل وعاملة – تقول دامعة :” لقد قضيت سنوات عديدة في الاشتغال بهذه الشركة، تزوجت خلالها وأنجبت أطفالا مازالوا يتابعون دراساتهم ، تعرضت لطرد تعسفي دون أن أنال مستحقاتي “.
وهذا عامل بإحدى الشركات بمنطقة سيدي معروف بالدارالبيضاء – سبق أن تطرقت الجريدة لوضعية عمالها المفصولين – تنطق جمل كلامه تيها وفزعا :” أعيش في حيرة كبيرة بعد أن تراكمت علي الديون من كل جانب : الأقساط الشهرية الخاصة بالقرض البنكي لاقتناء الشقة، والتي أصبحت أسرتي مهددة بفقدانها ، فواتير الماء والكهرباء التي صرت عاجزا عن تدبر أمرها بعد أن أعياني الطواف عبر المعارف والأصدقاء الذين لم أعد أستطيع مواجهتهم … والمؤلم أنني – صحبة عمال آخرين – طردت من العمل دون تسوية مستحقاتي ، وطريق المحاكم طويل ويتطلب مصاريف كثيرة، وأنا في حاجة لسداد ديوني عاجلا تفاديا للتشرد والضياع “.
إنها أوضاع متأزمة ، ولا شك، تلك التي ترزح تحت وطأتها مئات المؤسسات الإنتاجية – صغيرة كانت أم كبيرة – ، في ظل “الاختناق” الذي تعاني منه “الحركة الاقتصادية” عالميا ، وتستدعي ، أحيانا ، اتخاذ قرارات “مؤلمة” لإنقاذ المؤسسة من الانقراض ، لكن يبقى مأمولا استحضار “البعد الإنساني” قبل الإقدام على مثل هذه القرارات، ويشكل الاحتكام إلى “الوساطة”، كآلية تسعى للحفاظ على كرامة العمال / المستخدمين وصيانة حقوق كافة الأطراف – حسب تقارير فرنسية مثلا – وسيلة لجعل “الطلاق ” أقل “عنفا ” ، وإتاحة فرصة لاستعادة الأمل في المستقبل ، بعيدا عن حكم “الإعدام” الذي يجسده “الطرد التعسفي” المنكر لحصائل ” أعمار ” من الكد والكدح.

الكاتب : حميد بنواحمان benouahman.presse@gmail.com - بتاريخ : 20/03/2018