نبض المجتمع .. ثقل الماضي بأثر رجعي

حميد بنواحمان

” هل من الممكن أن يستيقظ المرء يوما على سماع خبر “ألسنة عمومية” تتحرر من عقالها ، استجابة لـ” نداء الضمير” ، لا التفافا على أسئلة “قضاة” المجلس الأعلى للحسابات ؟”
سؤال مبعث طرحه في هذا الاستهلال ، ما يقرأه المتتبع أو يسمع به من امتلاك ” مسؤول عمومي” في هذا البلد الديمقراطي أو ذاك، ل”جرأة ” قول الحقيقة ومصارحة الجمهور بشأن نقط غير مضيئة في “مساره” الذي يتداول إعلاميا باعتباره ” نموذجا للاستقامة” يقدم للأجيال الناشئة بغاية الاقتداء وأخذ العبرة . ومن آخر الأمثلة في هذا الإطار استقالة وزير الدفاع البريطاني مايكل فالون ، في بداية شهر نونبر الجاري، على خلفية “مزاعم ” بتورطه في “قضية تحرش جنسي بالبرلمان منذ سنوات خلت” . في رسالة الاستقالة، قال فالون : “الكثير من هذه المزاعم كاذبة ، ولكنني أقر أنني في الماضي لم أرق إلى المعايير العالية التي نطلبها من القوات المسلحة التي أحظي بشرف تمثيلها”. ، مضيفا “الثقافة تغيرت عبر الأعوام، والذي كان مقبولا منذ 10 أو 15 عاما لم يعد مقبولا الآن… أعتقد أننا يجب أن ننظر جميعا إلى الماضي. هناك دوما أمور تأسف عليها، وكان من الممكن أن تقوم بها بصورة مختلفة”.
وصية “عدم نسيان الماضي” الواردة في رسالة استقالة الوزير البريطاني، تعد ، للأسف ، نقطة مغيبة في أجندات العديد من مقتعدي كراسي المسؤولية عندنا – بمختلف أصنافها والمجالات المعنية بها – الحاملين لشعار ” الغاية تبرر الوسيلة “. فهؤلاء يفضلون عدم الالتفات إلى “الخلف” واستحضار “محطات البداية” في المشوار المهني، باعتبار ذلك، حسب زعمهم ، يشكل “مضيعةً للوقت وخطوة لا تستقيم ومتطلبات عصر السّبق والسباق” !
الوصية ذاتها جعلتني أستحضر نموذجا آخر للإقرار ب ” زلات ” الماضي المرخية بظلالها القاتمة على الحاضر ، والذي سبق الوقوف عند بعض دلالاته في مقال سالف.
لنتأمل في مضمون هذا الاعتراف : ـ ” بعد تخرّجي من مدرسة المعلمين التحقت بقرية أساكا ـ على بعد 80 كلم من ورزازات ـ ونظرا لصعوبة التضاريس ووعورتها، لم أستطع التأقلم ، فكنت كثير الغياب عن القسم ، غير ملتزم بأداء رسالتي التربوية…” .
بهذه الصراحة، وبعيدا عن “المراوغة الكلامية” ، التي أضحت موضة الكثيرين في أيامنا هذه ، تحدّث “الحسين .أ “، لأحد المواقع العربية ، مقرا بأنه ارتكب ما اعتبره “جريمة” الإخلال بالواجب المهني في حق أجيال متعاقبة من أبناء هذه المنطقة، مشيرا إلى أنه رغم عبوره المحيط الأطلسي، واستقراره بواشنطن في وظيفة مرموقة، ماديا ومعنويا ، ظلّت الأسئلة الحارقة تؤرقه بشأن “مصير التلاميذ الذين حرمتُهم من حصص التحصيل والتعلّم” ، التي كان يتقاضى عنها أجرة شهرية من المال العام؟ وللتخفيف من ثقل “ماضيه” غير المشرف، بادر إلى تأسيس جمعية ـ بإسهام مهاجرين آخرين ـ قامت بمبادرات اجتماعية لفائدة سكان القرى النائية التي سبق أن “عُين” بها كمُدرّس للابتدائي، منها تنظيم قوافل إنسانية لمساعدة ضحايا فيضانات تضرر من قوتها سكان المنطقة قبل حوالي ثلاث سنوات .
إنها “قصةُ” حياةٍ يتولد عن تدبر “عناوينها” الكبرى طرح أسئلة عدّة ، من ضمنها : تُرى لو تحلّى بعض الذين اقتعدوا “مناصب المسؤولية”، في هذه الجماعة ـ حضرية أو قروية ـ أو تلك “المؤسسة العامة” بشتى تصنيفاتها، بقليل من شيّم الاعتراف، وأنصتوا لصوت “الضمير”، كم من حقائق سيُكشف عنها بخصوص “الاختلالات والتجاوزات” التدبيرية التي كانت لها أوخم العواقب على البلاد والعباد؟
فهذا رئيس جماعة سيعترف بأنه كان “يوقع” على بياض ـ هو الذي لا يتقن سوى البصم ـ جاهلا محتوى الوثائق التي تُقدم له ، مادام أن مستواه الدراسي توقّف عند “الشّهادة” بمرجعيتها القديمة ، مُبررا تشبّثه بالكرسي ، واستعمال كافة الوسائل ، بما فيها “المحظورة” ، بضمان الحماية له وللأقربين، إذا ما قُدّر ودارت عقارب الزمن في اتجاه الوضوح والشفافية.
وهذا مهندس سيُميط اللثام عن ملابسات قنطرة ، حديثة الإنشاء، سقطت مع أول هبّة ريح خريفية ، موضحا أن الحديد المستعمل في البناء كان من نوع “عدّي باللّي كاين”، رغم إلحاحه على جلب “الجيّد” ، حيث واجهه المسؤول “العمومي” بـ”ضعف الميزانية”، وتعقيد التراتبية المُوصلة إلى “الآمر بالصرف” …
وذاك مدير سابق لـ “خيرية” ـ سيطلب الصفح مما “اقترفه” تدبيره في حق مئات اليتامى ، حين كانت “المؤونة” المخصصة لهم ( من خضر ، وفواكه ، لحوم ، قطاني، دقيق … )، وتبرّعات المحسنين ( أغطية وألبسة …) ، تُخطئ الطريق إلى بطونهم “الجائعة” وأجسادهم “العارية” ، وتعوّض بأخرى أقل جودة ومتانة.
سيناريوهات عديدة يمكن “تخيّلها” ، في سياق الحديث عن “صحوة ضمير” ، يرغب أصحابها في الانعتاق من “شقاءٍ” داخلي يعكّر صفو يومياتهم، لم تفلح مختلف الوصفات الطبية ، المحلية منها أو الأجنبية، في تبيان أسبابه، “صحوة” من المؤكد أن مُسلّمات كثيرة ستسقط بمقتضاها، و”بورتريهات” جديدة ستُنجز ، مُعلنة عن “قواعد” مغايرة قيد التأسيس تخص السباق نحو “مقاعد المسؤولية العمومية”.
إنه “حُلم” ليس من الهين تحقيقه على أرض الواقع ، بالنظر لارتباطه ب “شرط “وجود أشخاص ممن سبق لهم تحمل “المسؤولية العامة “، بمقدورهم أن يكونوا، حقيقة لا افتعالا ، ” شهودا على المسار”، دافعهم ، الأول والأخير، “حساب النّفس” ، لا “حساب السياسة” الذي يحدد أين ومتى تنطق ألسنة “شهود على العصر”، بعدما خرست لمدة نصف قرن أو يزيد ؟

الكاتب : حميد بنواحمان - بتاريخ : 14/11/2017