نجاح المؤتمر… وعقدة الإخوان

بقلم: نور الدين زوبدي
شكّل المؤتمر الوطني الأخير لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية لحظةً سياسية فارقة، ليس فقط في تاريخ الحزب العريق، بل في المشهد السياسي المغربي ككل. لقد جاء هذا المؤتمر مميزًا على عدة مستويات: من حيث التنظيم المحكم، والرسائل السياسية القوية، والحضور الوطني والدولي الوازن، خاصة من ممثلي الأحزاب الاشتراكية والديمقراطية التقدمية عبر العالم، الذين جسدوا دعمًا واضحًا للمسار السياسي والفكري الذي يمثله الاتحاد.
لم يكن مستغربًا أن تحظى الكلمة الافتتاحية للكاتب الأول للحزب، الأستاذ إدريس لشكر، بمتابعة كبيرة داخل الأوساط السياسية والإعلامية، بالنظر إلى ما حملته من رسائل قوية ومباشرة. غير أن اللافت هو وقع هذه الكلمة خارج قاعة المؤتمر، وتحديدًا في صفوف التيار الإخواني، الذي ظهر زعيمه مرتبكًا، غير قادر على السيطرة على مشاعره، وفاقدًا التحكم في ألفاظه وتصرفاته، حيث بدا عموماً عاجزًا عن ضبط انفعالاته وردود فعله. من شدة الصدمة، فقد الزعيم الإخواني أعصابه، وردّ بشكل غير محسوب، متلفظًا بكلمات لا تليق بمكانته كزعيم حزب ورئيس حكومة سابق، مما يعكس حجم الانفعال والارتباك الذي كان يعاني منه.
تجلى هذا الانفعال خصوصًا في ردود أفعاله على تعبير الاتحاد الاشتراكي عن تضامنه المبدئي مع الحزب الجمهوري التركي، الذي حضر المؤتمر بوفد رسمي، ويواجه تضييقًا وقمعًا متواصليْن من قبل نظام الرئيس التركي رجب طيب أردوغان. هذا التضامن، الذي يدخل ضمن تقاليد الحزب في نصرة الحركات الديمقراطية حول العالم، أثار حفيظة الإخوان، لا لشيء سوى لأنهم لا يرون في الديمقراطية خيارًا مبدئيًا، بل وسيلة مرحلية تُستغل للوصول إلى السلطة، قبل أن يُنقلب عليها باسم “الشرعية”، و”المرجعية”، و”البيعة الإيديولوجية” للأمير/النموذج، والذي يتمثل، في هذا السياق، في أردوغان.
اللافت في مشهد المؤتمر، أن حزب الإخوان لم يُقصَ أو يُستثنَ، بل تمت دعوته بشكل رسمي للحضور، إلا أنه اختار التخلف طوعًا، واضعًا نفسه في عزلة سياسية واضحة. هذا القرار يطرح أكثر من سؤال حول خلفياته، خاصة في ظل مشاركة وفد من الحزب الجمهوري التركي المعارض، وهو ما يُرجّح أنه أثار حرجًا لدى زعيم الإخوان، الذي ربما خشي من غضبة أردوغان، المعروف بحساسيته تجاه أي تقارب مع خصومه السياسيين. ومع ذلك، تابع الزعيم الإخواني مجريات المؤتمر عن بُعد، وخصوصًا كلمة الكاتب الأول، التي لم تكد تنتهي حتى خرج مسرعًا للرد، في محاولة لتبرير غيابه ومهاجمة مضمون الكلمة، دون أن يُخفي ارتباكه الظاهر.
وبذلك، يكون قد اختار عن وعي أن يضع نفسه وحزبه في موقع العزلة، خارج سياق اللحظة الوطنية الجامعة، عازفًا عن الانخراط في دينامية الحوار السياسي والانفتاح، ومؤكدًا من حيث لا يدري تلك الصورة التي بات يحملها الرأي العام عنه: حزب لا يجيد سوى الاصطفاف خارج الإجماع.
الخلاف بين الاتحاد الاشتراكي وهذه التيارات لم يكن يومًا خلافًا شخصيًا أو ظرفيًا، بل هو خلاف جوهري ينبع من اختلاف عميق في الرؤية والمبادئ. فالتيار الإخواني، سواء داخل المغرب أو خارجه، لا يؤمن حقًا بالديمقراطية كآلية لتدبير التعدد والاختلاف، وإنما يوظفها كوسيلة ظرفية لبلوغ السلطة، قبل أن ينقلب عليها عند أول فرصة. وهذا ما يفسر دفاعهم المستميت عن ممارسات أردوغان القمعية، التي لا تترك مجالًا للمعارضة أو حرية التعبير أو استقلال القضاء، وهو دفاع يكشف جوهر توجههم المناقض كليًا لقيم الحداثة والديمقراطية.
لم يكن دفاع زعيم الإخوان عن أردوغان مجرد رد فعل على موقف سياسي، بل تجلٍ لانزعاج أعمق: نجاح الاتحاد الاشتراكي في تنظيم مؤتمر ناجح بكل المقاييس، حضرته شخصيات ووفود من مختلف المشارب، وأعطى صورة مشرقة عن حزب يساري راسخ في التربة الوطنية، منفتح على المحيط الدولي، وملتزم بقضايا الشعوب الحرة.
لقد كشف المؤتمر عن حيوية سياسية افتقدتها الساحة لسنوات، وفرض حضور الاتحاد من جديد كفاعل محوري في الدفاع عن الديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهو ما يربك التيارات التي اعتادت على الهيمنة الخطابية، دون أن تقدم نموذجًا ديمقراطيًا حقيقيًا. هذه الدينامية الجديدة أربكت من لا يستطيعون العيش خارج مناخات الاستقطاب والتشكيك والتشويه.
إن دفاع الإخوان عن قمع أردوغان ليس مجرد موقف عاطفي، بل هو امتداد طبيعي لخطهم السياسي. من يبرر القمع في تركيا، لن يتورع عن تبريره في أي مكان، بما في ذلك بلده. ومن لا يعترف بالديمقراطية كقيمة وممارسة داخلية، سيظل يعادي كل من يؤمن بها فعليًا، خاصة حين يتعلق الأمر بحزب له تاريخ طويل من النضال والتضحيات، كالاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية.
لقد قدّم المؤتمر الأخير للاتحاد الاشتراكي رسالة سياسية قوية، مفادها أن الديمقراطية لا تزال ممكنة، وأن الأحزاب الوطنية الأصيلة قادرة على تجديد ذاتها، والتأثير في محيطها، والانخراط في القضايا الدولية من موقع سيادي ومستقل. أما “عقدة الإخوان”، فليست سوى دليل إضافي على ضيقهم بأي مشروع ديمقراطي ناجح، وعلى عمق التناقض القائم بينهم وبين كل ما يرمز إلى التعددية والحرية والتقدم.
الكاتب : بقلم: نور الدين زوبدي - بتاريخ : 20/10/2025