هل أتاك حديثُ «المؤسَّسة»، هي والميتافيزيقا صنوان؟!

أحمد المديني

1
ما سأخطُه هنا جِدٌّ في جِدّ». والقلم وما يسطرون»، فما اعتدت مع قارئي استعمالَ الهزل ولا استخدمت الإسفاف، دأْبي أن أتفادى ما يَقدَح بالرغم من كثرة ما نصطلِي منه ونراه يَفدَح. أعلم جيدا كمِ الحياةُ تُثقلُ على الإنسان إن لم يُخلّلها بتوابل ويعطّرها بما يخفّف من أوزارها يستريح بها وإمّا يتسلّى قليلا، لا سيما إن كان العُسرُ غالباُ واليُسر غائباً والنفسُ تضيقُ بلا نفَس. مما أذكره من طفولتي إلى بلوغي فعنفوان شبابي أن بني قومي وهم عقلاءُ رزينون مرحو الأعطاف وفكهون، أيضا؛ أذكر مجالس والدي وقد كان بيتُنا مَضافة، يستقبل أصدقاءه وزوّاره من فقهاء وزملاء القرويين وقضاة وحتى أبناء السبيل، وبعد خوضهم في أحاديث الفقه والتفسير والفتاوَى والفذلكات النحوية وكذا الأشعار، يولِم لهم وخلالها وبعدها ينصرفون إلى المستملحات ولطيف الأقوال وما يسمّونه البَسط. كذلك عشنا أبناء جيل الدار البيضاء السبعيني ونحن نحمل جبال التُّعس لقسوة أيامنا والعنف المُسْلَط عليها وعلينا لا بد لنا كلما وبما تيسّر أن نُذهِب عنّا الشجن بوْقِيّت بهجة وانشراح، وكاسُ المحبة علينا يدور بِراح.
2
لا أريد أن أحكم على الزمن الحالي وأنا منه، وإن فتَر معه حماسي وخفّ الوهجُ الذي كان، وأدرك تبدّلَ الأحوال بين الأمزجة والأذواق والأجيال، لكني لم أنفصل ولم أر الذبولَ على الوجوه، وأطفالا كأنما يولدون شيوخا، وفتيانا وشبابا يغلب عليهم الابتئاس، واليأس مُقدَّمٌ على الأمل، وإن وُجد بينهم متفائلٌ عدّوه أحيانا ساذجاً أو خفيفَ العقل، فأيُّ خطر على شعبٍ وبلدٍ أن تُقبِر شبيبتُه التي هي عمادُ مستقبله نفسَها وهي في مُقتبل العمر وأول الطريق، لا عجب أن يكون العنفُ والشغبُ المتفجران في ملاعب كرة القدم، وهما بالطبع مرفوضان، أحدَ أبهر أشكال التنفيس عن إحباط ومكبوتٍ أكثر منه أسلوبَ مؤازرة لفريق الدار ولو بالحجارة والنار. حين ينفَضُّ الجمعُ تعود الحشود من حيث أتت، سَكرى بانتصارات عابرة وهمية، وإما تَجرُّ ذيلَ الخيبة بسبب هزيمة تراها منكَرةً لم تَجر في حلبة الفرسان وإنما في مضمار لعبة، وفي آخر المطاف ينكفئ الفريقان ويهبطان في قرارة بئر عميقة من الصمت والكآبة الخرساء.
3
ثمة إذن شيءٌ بل أشياءُ هي على غير ما يرام، لا يكفي لها آرائكُ آلاف المحللين النفسيين وقاعاتٍ وغرفٍ لمثل مستشفى الرازي ولو عمّمتها على سائر البلاد، إذ الضحك والمرَح فنّان لا يولدان بعلاج الطب النفسي الذي يُكرّسُ عملُه للعُصاب والحزن الدفين، أي الاكتئاب بجذور متمكِّنة، والحال أن الحزنَ العائمَ في الطرقات وعلى باحات المقاهي بلا عدِّ يحتاج إلى طبٍّ مختلفٍ من نوع أمراض العالم الثالث مرتبطة بالعيش وظروفه من كل النواحي سالَ عنها حِبرٌ غزير منذ استقلال الأوطان وصهَلت خُطب في التجمعات وسارت حشودٌ في المظاهرات وامتلأت زنازنُ فلا مزيد، ولن تضع الحربُ أوزارها حتى وقد صدئ الكلام. عندما يستوي الجاهل والعالم، ويتفوّق الأولُ على الثاني، ويعلو مقامُ الدّعِيِّ الدّجال، ويَخسِف حقُّ الوطني والنزيه، يفترض هو القدوة والمثال، يتضاءل الاحتمال عن أفق لغد يبدو كالمُحال، ولأن القوم ألِفوا الخيبة والانكسارات فإنهم قابعون في الصمت وعلى كل لسان ينعقد سؤال.
4
لا أُفتي وما أنا بِنَذير. لا يتخيّر الكاتبُ موضوعه دائما ولا كلماتِه، خاصةً منا نحن الذين وُلدنا في بلدان الحرمان والحِمم والدّوْسِ على الرقاب. أجدادُنا في الحركة الوطنية ومن تلاهم وإلى أمدٍ قريب لم يكتبوا الكتب ولكن صدحوا بالشهادات حملوها على صدورهم وطافوا في الأحياء وسوّدوا الصحف على أبوابها حراسٌ عتاةٌ قبل الاستقلال وبعده يتصيّدون الكلمةَ المحفِّزةَ المحرِّضةَ التي يسطّرها السياسي الوطني والديموقراطي والكاتب الدّاعية، ليكبّلوها ويكفّروها ويخوّنوها ويُدجِّنوها وقد أفلحوا وبيسَ المصير. في الواحد جَمْعٌ، وقليلا ما يفرَغ أديب وشاعرٌ لجُرحه يَشجيه وحُبّه يُناغيه تحت شرفة الحبيبة، وُلِدت الرومانسيةُ في الأصل ثورةً على الجمود والقيود لا لوعةً ودموعا تَذرِفها العذارى على الخُدود، والأمهات اللواتي شاب شعرهن ووهنت السيقان من طول وقوف عند أبواب سجون ذبلت فيها أعمار فلذاتهن كنّ رومانسيات، ما زلن يحملن قِفافاً بعرقهن منتظرات دورهن لزيارة أسير في فلسطين، كما ينتظر حمّالون وعمالٌ بؤساءُ في المُوقف من يشتري اهتراءَ عضلاتهم بأجرٍ زهيد لا يَندى له جبين الجشعين.
5
سأعود في مقالة أخرى لأكتب بأبجدية الفرح وأكفيكم من طول تُعس فما أحوَجنا إلى الفرح. كنت سأفعل الآن، لولا وقَف على رأسي صديقٌ قديم وبدأ يهذي بكلام طويل لا أعلم هل يخاطبني أم فقد صوابه، أم لعله يتخذني وسيطا وهو في حال عُسر لتصل شكواه التي لم أفهم بالضبط إلى من يعنيه أو لا يعنيه الأمر، وأجدها قابلة للتأويل حسب مخزونك ووضعك، هي: «هذه المؤسسة[ لم يُسمّها] لا تفكر في الذهاب إليها، في الاقتراب منها، إيّاك والمرور تحت نوافذها. أما الوقوف ببابها فهو ضرب من المحال. لذا، امحُ ذكرها من رأسك، صَفِّها من شريط الأحلام، لا يخطرنّ ببالك يوما الولوج إليها، عبور ممراتِها، ودهاليزِ مسؤوليها، مديراتها الرئيسات العامّات ومديريها، ولو شُروداً، فذا جُرمٌ مشهودٌ بعيون الكاميرات، جئتَ تطّلع على أسرار الكون، لا تفكر أو ستُدان سلفاً بأن بك مسّاً من جنون، وحقِّ نون، هذا جِدٌّ في جِد». والقلم وما يسطرون». لا تفكر وإن سلختَ دهرا في مصالحها وبلغتَ من العمر عُتيا في مكاتبها، فهي حُكرٌ ووكرٌ ومِحرابٌ لأهلها سادتِها كبارِها، وصغارُها لهم مصطبةٌ يقرفصون فوقها كالقِردة عند مداخلها، تقود إلى مفاوزها حيث هم لا يُرون أشبه بالميتافيزيقا.
6
تظنني أخرِّف. عندك معضلة ما، لو خطر ببالك ـ أوصيك مجدداً إيّاك أو ستُصاب بالصّرع ـ أن تطلب أحدا أنزلته الآلهة، أي المطلق، مكلّفاً بفضِّها، ستقول لك السكرتيرة بصلف واحتقار: سنعطيك موعدا بعد ألف عام، أوdésolée المديرة العامة هذا الأسبوع في استجمام، أما الرئيس المدير العام vous n’avez vraiment pas de chance ! هو في مهمة لمدة عام. افترض، طلبت بعد عام قد اختنقت بالسؤال، فالحال أسوأ من حال. ستسمع: السادة المديرون مجتمعون هم من أجل البلاد والعباد يعملون. أين؟ أوه، إنهم متفرقون، بعضهم في خُلوة كالمتصوفة بين فنادق مراكش وإيفران، العطاء المثمر يحتاج إلى السكينة وهدوء البال؟! هَب، فكرتَ أن تقتحم المكان فكأنك ستصعد إلى جبل الطور، أو تنتابك فكرةٌ خرقاء لتثقُب الجدران والأسقفَ وتدخل من باب الحمام، حمام المدير(ة)العام(ة)أو كُوّة ماسِك الأختام، أنت إذن تنطح الصخر، وتعاند لهتك سرّ الميتافيزيقا وهي هلام. إنس، وعد إلى رحم البدايات، إنما إياك أن تنسى السؤال» فذَرهم في غَمرتِهم حتى حين» فلِكلّ أجلٍ كتاب، يحسبون أنهم يتدبرون لك ولأمثالك فنَّ الحكامة الجيدة، وهذه تقتضي يا سيد إغلاق الأبواب والأفواه بإحكام، وبه الإعلام والسلام.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 21/09/2022

التعليقات مغلقة.