هل الشعب الفرنسي أمام اختيار حقيقي فعلا؟

حسن السوسي

استطاع الدستور الذي قامت عليه الجمهورية الفرنسية الخامسة تجاوز سلبيات الجمهورية الرابعة التي انتهت إلى الطريق المسدود في مجال تأمين استقرار حكومي في البلاد. ويقترب عمر هذا الدستور اليوم من عامه الستين، إذ رغم كل التعديلات التي عرفها خلال العقود الخمسة الماضية ، ظل -في جوهره- قاعدة نظام رئاسي متميز، حيث يحتفظ رئيس الجمهورية المنتخب عبر الاقتراع العام المباشر، بصلاحيات واسعة في تدبير شؤون فرنسا في مختلف المجالات الاستراتيجية الداخلية والخارجية على حد سواء، إلى درجة اعتبر البعض معها أن هذا النظام هو نظام رئاسي ملكي!.
وليس هناك مجال للشك في أن اعتماد اُسلوب الاقتراع العام المباشر لتنصيب رئيس الجمهورية، قد أحدث تحولا كبيرا في طبيعة الحكم في البلاد لجهة ترجمة شعار الشعب مصدر السلطة التأسيسية على أرض الواقع من جهة، وحيث ليس بإمكان أي كان التكهن بما سيكون عليه اختيار الشعب عند هذه الانتخابات الرئاسية أو تلك، الأمر يترك الباب مفتوحا على مختلف التكهنات من جهة أخرى.
صحيح أن وجود أسرتين أيديولوجيتين وسياسيتين كبيرتين: إحداهما يمينية ليبرالية والأخرى يسارية اشتراكية تقدمية داخل الجسم الاجتماعي السياسي الفرنسي، كان يسمح بترجيح هذه الكفة أو تلك في الانتخابات الرئاسية لما بعد دستور عام 1958 غير أن الخريطة الحزبية الفرنسية، لم تكن لتقبل بأي جمود يديم عمر هذه الثنائية القطبية العامة ،خاصة بعد ظهور حزب الجبهة الوطنية اليميني المتطرف، الذي بدأ يلعب أدوارا متنامية في الحياة السياسية العامة في البلاد منذ ثمانينيات القرن الماضي. وهو ما اقترن بتراجع عام لقوى اليمين المعتدل واليسار الاشتراكي والشيوعي الذي فقد الكثير من جاذبيته الايديولوجية والسياسية بعد تجربة التناوب الأولى التي عرفتها فرنسا تحت رئاسة فرانسوا ميتران والتي استغرقت ولايتين كاملتين أي أربعة عشر عاما.
لقد اكتنف نوع من الضباب الكثيف أجواء المشهد السياسي الفرنسي مع صعود اليمين المتطرف،مما جعل الرؤية مشوشة على الكثيرين، إذ توارى نوع من التقاطب بين تكتلات الأحزاب الجمهورية التقليدية ليفرض تيار يميني متطرف نفسه على مجمل المشهد السياسي، يمارس تحت قوانين الجمهورية، غير أن برنامجه السياسي البعيد يقوم على كل ما سيؤدي ?حتما-إلى اقتلاع أسس ومبادىء الجمهورية من جذورها، وبناء نظام سياسي ،أقرب إلى النظام الفاشي منه إلى شيء آخر.
وقد أدى صعود هذا اليمين المتطرف، إلى أن أصبح تهديدا محدقا على مجمل مكتسبات الشعب الفرنسي في ميادين الديمقراطية والتعايش.
وعلى هذا الأساس، فإن الحديث اليوم عن حرية اختيار الناخب الفرنسي بين من يفضله لرئاسة البلاد وبين من لا يراه صالحا لها، حديث ينطوي على كثير من التجاوزات، لأن اختياره الحر والنزيه، قد تجووز تماما، بعد انتخابات الدورة الأولى، حيث منح صوته لمن اعتبره أقرب إلى تصوراته، وأقدر على تلبية ما يعتبره مصالحه ومصالح الفئة الاجتماعية، التي ينتمي إليها فكرا وأيديولوجية أو تنظيما سياسيا أو نقابيا. أما اليوم، فهو أمام واقع مختلف تماما حيث عليه، وهو مكره تماما، أن يمنح صوته لمن يرى أنه اقل سوءا أو ضررا من الآخر في معادلة السوء.
وبما أن الأمر قد تحول إلى هذا النوع من المعادلات، فلا يستغرب المحلل السياسي درجة التردد التي يجد الناخب الفرنسي نفسه تحت تأثيرها وبخاصة الناخب غير القادر على قراءة تاريخ الأحزاب السياسية في فرنسا والتمييز بين التصورات اليمينية الليبرالية الديمقراطية واليمينيّة المتطرفة العنصرية، الأمر دفع بالكثيرين إلى القول أنه لا ينبغي أن يفرض على فرنسا لا هذا ولا تلك في نوع من تصنيف مرشحة اليمين المتطرف ومرشح اليمين الليبرالي الجذري ضمن خانة واحدة. وهو ما ليس صحيحا بأي شكل من الأشكال.
وبدهي أن فهم طبيعة المشهد السياسي الفرنسي في الوقت الراهن، يستدعي أول ما يستدعيه استحضار حقيقة أساسية حول طبيعة التحول الذي رافق الجمهورية الخامسة ويبدو أنه قد وصل إلى ذروته راهنا.
لقد استطاع دستور الجمهورية الخامسة فعلا ضمان الاستقرار الحكومي، والابتعاد عن الشلل في تدبير الشأن العام وديكتاتورية الأقليات الحزبية في تشكيل الحكومات، الذي تميزت به فترة الجمهورية الرابعة، غير أن تطورات الممارسة السياسية في ظل ذلك الدستور، قد أفرزت واقعا جديدا تماما عرف أول مؤشر عليه في انتخابات 2002 الرئاسية عندما احتل جان ماري لوبين رئيس الجبهة الوطنية اليميني المتطرف آنذاك مرتبة أهلته لمنافسة جاك شيراك في الدورة الثانية للانتخابات، الأمر الذي أدى إلى تنظيم حملة وطنية واسعة النطاق لدعم شيراك دون أي تردد من قبل مختلف الأحزاب الديمقراطية واليسارية الفرنسية.
وما نعاينه اليوم، ليس تكرارا لتلك الحالة بعد احتلال مارين لوبين المرتبة التي أهلتها للدورة الثانية فحسب، وإنما هو أعمق من ذلك بكثير، خاصة أن هذه الاخيرة لا تنافس ممثلا او رمزا لحزب سياسي منظم، وانما شخصا بنى كل دعايته على مناهضة الاحزاب والسيستم القائم أيضا. وفِي هكذا وضع ليس من الضروري الإسهاب في سرد المبررات التي أدت إلى هذه المماثلة بينهما سواء لدعمها او تفنيدها، إنما الأمر الأهم هو الوقوف عند مضاعفات وصول لوبين إلى الحكم على مجمل المجتمع الفرنسي، وتحديد ما اذا كانت مضاعفات انتخاب ماكرون مماثلة لها.
وهنا، وبموضوعية قصوى ممكنة، وخارج أي تقدير على أساس الانتماء الفكري او السياسي، فإن مخاطر وصول اليمين المتطرف إلى قمة السلطة التنفيذية في فرنسا تمس مباشرة مجمل الكيان الوطني، اذ تنبئ بما لا يختلف في شيء عن حرب أهلية فرنسا في غنى عنها تدل عليها مفردات الخطاب التمييزي العنصري لماري لوبين التي يبدو أنها تفتخر بتبنيها هذا الخطاب القاتل للتعايش والسلم الاجتماعي الفرنسي.
إن هذا الواقع الجديد، يفرض على الشعب الفرنسي التفكير بجدية في دستور جديد يحمي البلاد من مثل هذه المخاطر ،أي الانتقال من دستور استطاع تأمين الاستقرار الحكومي للبلاد، وقطع مع سلبيات الجمهورية الرابعة، إلى دستور يحافظ على الاستقرار الحكومي والاجتماعي الوطني معا ، حتى يمنع من الانزلاق إلى تنازع اجتماعي قد ينتهي إلى تفكيك مختلف البنى التي يقوم عليها الشعب الفرنسي.
كيف سيكون ذلك؟ وما هي الخطوات التأسيسية التي تؤدي إليه؟ هذا سؤال برسم مختلف القوى الفرنسية الحريصة على مبادىء الجمهورية. وهذا على ما يبدو هو محور ورش إصلاحي دستوري سياسي على جدول الأعمال في أفق الانتخابات الرئاسية المقبلة.

الكاتب : حسن السوسي - بتاريخ : 03/05/2017