هل تتجه السياسة الخارجية لفرنسا إلى المواجهة واستعمال القوة؟

باريس يوسف لهلالي

برنامج الإنقاذ الأوروبي، الأزمة الليبية، الانقلاب بمالي، الوضع بلبنان وأزمة شرق المتوسط جعلت صيف قصر الإليزيه جد ساخن بالقضايا الأوروبية والدولية، ودفعت بالرئيس الفرنسي ايمانييل ماكرون إلى الواجهة الديبلوماسية الدولية في عدد من الأزمات الخطيرة التي تعرفها منطقة غرب إفريقيا والبحر المتوسط خاصة بشرقه.
وفي هذا الإطار تستضيف فرنسا هذا الأسبوع بجزيرة كورسيكا اجتماعا لمجموعة دول المتوسط الأوروبية السبع يتم خلاله التطرق إلى التوترات الراهنة مع تركيا في شرق البحر المتوسط، وفق ما أعلنته الرئاسة الفرنسية. وأوضح قصر الإليزيه أن الاجتماع سيستمر بضع ساعات و»سيخصص بشكل أساسي لقضايا المتوسط» وأن «دول مجموعة المتوسط السبع تتشارك الرغبة نفسها بإطلاق دينامية تعاون جديدة» في هذه المنطقة «خصوصا في ما يتعلق بقضايا التنمية المستدامة والسيادة.»
وأضاف بيان الرئاسة الفرنسية أنه «في سياق التوترات في شرق المتوسط» ستسمح القمة بـ»الدفع قدما نحو توافق حول العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، ولا سيما أن قمة الاتحاد الأوروبي التي ستعقد يومي 24 و25 سبتمبر ستخصص لهذا الأمر.
الأزمة الأوروبية وبرنامج الإنقاذ الذي بلغ 750 مليار يورو كان بمثابة نجاح للديبلوماسية الفرنسية التي تلقت دعما كبيرا من ألمانيا والمستشارة انجيلا ميركيل في هذا الملف والتي تحولت إلى الكينيزية في المجال الاقتصادي. وهو الدعم الذي غاب في ملفات أخرى خاصة في أزمة شرق المتوسط، حيث قدمت باريس دعما كبيرا لليونان في أزمتها مع تركيا بما فيها وضع جزء من طيرانها وبوارجها رهن أثينا، وذلك من أجل الدفاع عن مصالح أوروبا حسب باريس، التي اتهمت تركيا بالاعتداء على السيادة اليونانية والقبرصية. نفس المواجهة تكررت بليبيا، حيث اتهمت أنقرة باريس بدعم الجنرال حفتر ضد حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا. في مالي، مازالت فرنسا تتوفر على أكثر من 5000 جندي من أجل مواجهة الحركات الجهادية في إطار عملية برخان. ومنذ انقلاب 18 غشت من طرف الجيش ضد الرئيس إبراهيم ابوبكر كيتا، قام الرئيس الفرنسي باتصالات مكثفة من أجل حل هذه الأزمة، التي بينت مدى ضعف هذا البلد الإفريقي، والمخاطر التي تحوم حول عملية برخان التي انطلقت منذ 6 سنوات بالساحل الإفريقي.
بعد الانفجار الذي شهدته بيروت، قام الرئيس الفرنسي بزيارتين متتاليتين من أجل إخراج هذا البلد من أزمة تزداد استفحالا منذ عدة شهور.  وهي الزيارة التي اعتبرها الرئيس التركي طيب اردوغان ذات أبعاد «استعمارية» ومجرد «فرجة»، وقامت أنقرة بدورها ببعث مساعدات عاجلة إلى هذا البلد، تلتها زيارة ايمانييل ماكرون إلى بغداد، بعد غياب طويل لرئيس فرنسي عن العاصمة العراقية. هذه الدينامية في المنطقة تعيد أوروبا إلى الواجهة بالمنطقة من خلال البوابة الفرنسية. لكن هل فعلا تدعم أوروبا فرنسا في مساعيها في المنطقة المتوسطية وبالشرق الأوسط ؟ في الأزمة الخطيرة التي اندلعت بين باريس وانقرة، دعت المستشارة الألمانية انجيلا ميركيل إلى الحوار بين الطرفين، ولم تساير رغبة باريس في تطبيق عقوبات على تركيا خاصة في أزمتها مع عضوين في الاتحاد الأوروبي وهما قبرص واليونان.
وفي غياب أوروبي بارز في أغلب هذه الأزمات كانت الديبلوماسية الفرنسية في الواجهة، وهو الحضور الذي يتناقض مع مصالح قوة أخرى صاعدة بالمنطقة وهي الجمهورية التركية، التي أصبح لها طموح كبير من أجل العودة إلى المنطقة المتوسطية كفاعل أساسي. بالإضافة إلى التواجد الروسي والصيني ومجموعة أخرى من الفاعلين الصغار بالمنطقة. والمحرك الأساسي لهذه السياسة الفرنسية هو محاربة الإرهاب سواء في الساحل الإفريقي أو في ليبيا، بالإضافة إلى سوريا والعراق الذي زاره الرئيس الفرنسي بعد غياب طويل عن هذا البلد الذي كان أحد الحلفاء السابقين لباريس.
التحول في السياسة الخارجية التركية منذ وصول طيب اوردغان أصبح يطرح مصاعب لباريس، خاصة أن تركيا بعد رفض عضويتها في الاتحاد الأوروبي، تركت هذا المشروع جانبا وعادت إلى مجالها التاريخي، سواء بالشرق الأوسط أو بشرق المتوسط. وبفضل الدعم الأمريكي أصبحت فاعلا أساسيا في المنطقة سواء في سوريا، العراق وكذلك في ليبيا. وهذا الحضور القوي هو الذي جعلها في الشهور الأخيرة في مواجهة مباشرة مع باريس.
الخلاف بين الحليفين في المنظومة الأطلسية تراكم في السنوات الأخيرة، وبدأ منذ أكتوبر 2019 عندما انسحبت القوات الأمريكية من شمال سوريا، لتهاجم تركيا الملشيات الكردية بسوريا، والتي كانت تساعد في الحرب على الإرهاب، هذا الانسحاب أجبر فرنسا على التراجع وسحب قواتها الخاصة دون أن تتمكن من حماية حلفائها الأكراد ودون أن تنجح في الضغط على تركيا، وهو ما جعل الرئيس الفرنسي يصرح أن الحلف الأطلسي يعيش الآن « موتا سريريا».
الحادث الخطير بين البلدين وقع في 10 يونيو الأخير بالبحر المتوسط، عندما حاولت البحرية الفرنسية تفتيش إحدى البواخر التجارية المحملة بالسلاح نحو ليبيا، مما جعل البحرية التركية تهدد نظيرتها الفرنسية بشكل جدي، وهو الحادث الذي طرح أمام هيئات الحلف. كما يدعم كل طرف أحد الأطراف المتنازعة في ليبيا، وفي هذا الإطار صرح الرئيس الفرنسي أن تركيا لها «مسؤولية تاريخية وإجرامية في الأزمة الليبية» وتدعم انقرة حكومة الوفاق الوطني وباريس برلمان طبرق بالشرق، كما أن أردوغان لا يغفر لباريس تحالفها مع عدوه اللدود الإمارات العربية المتحدة التي يتهمها في دعم محاولة الانقلاب التي عرفتها تركيا سنة 2016.
خلال أزمة تركيا مع قبرص واليونان بشرق المتوسط حول التنقيب على الغاز الذي يثير لعاب العديد من بلدان المنطقة، فإن باريس ودعما لليونان، نشرت سفنا حربية ومقاتلات في المنطقة في مبادرة سرعان ما نددت بها أنقرة، التي تتوفر على 300 مقاتلة أمريكية من طراز «اف 16»، وهو ما يجعل أية مواجهة بالمنطقة مليئة بالمخاطر وقد تؤدي إلى مواجهة بين حلفاء بالناتو. تركيا التي تقوم بالتنقيب على الغاز بالمنطقة تعتبر عملها شرعيا، وتعتبر اتفاقية لوزان لسنة 1923 غير عادلة عند تقسيم إرث الإمبراطورية العثمانية بين الإمبراطوريات الاستعمارية أنذاك فرنسا وبريطانيا.
الرئيس الفرنسي ايمانييل ماكرون أشار في عدة خطب سياسة أمام ديبلوماسية بلده أنه « لن ينهج سياسة التدخل». وسياسة المحافظين الجدد التي طبعت الديبلوماسية الأمريكية في عهد وليام بوش أو ما يجري حاليا مع دونالد ترامب. وسياسة عدم التدخل هذه تبدو متناقضة حسب سياسة فرنسا الحالية بعدة بؤر بالمنطقة، لكن يمكن إرجاع ذلك الى تعقد الوضع والذي يتطلب أحيانا تدخلا عسكريا مثل عملية برخان بالساحل الإفريقي، أو التدخل من خلال القوات الخاصة كما تم بليبيا حسب عدة مصادر فرنسية.
لكن فرنسا كقوة متوسطة تجد نفسها في عدة بؤر للتوتر تتجاوز إمكانياتها، وهي تحاول إقناع شركائها الأوربيين بتحمل الوزر إلى جانبها، خاصة بمالي ومنطقة الساحل، وهو دعم حتى الآن رمزي ومحتشم، بسبب السياسة الألمانية التي لا تقتسم وجهة نظر باريس في العديد من الأزمات منها ليبيا، وهو نفس موقف إيطاليا وإسبانيا . وهو ما يجعل فرنسا وحيدة في عدة بؤر ودون دعم أوروبي، أمام قوى منافسة لها بالمنطقة مثل تركيا وروسيا والصين في غياب الحليفة واشنطن التي تنظر بعين الرضا لعمل الشريك التركي

الكاتب : باريس يوسف لهلالي - بتاريخ : 10/09/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *