وداعاً سفير الكتاب العربي من لبنان إلى المغرب

أحمد المديني

ما سأخطه في هذه الورقة، ليعلمه أهل المشرق والمغرب، من أبناء الجيل الحاضر، هو بعض دَيْن نحتاج نحن المغاربة من جيل الستينيات وما تلاها أن نرده لأهل الفضل والبذل العرب، وفي طليعتهم أشقاء لبنانيون، أسدوه لنا ونحن في الخطوات الأولى على درب الاستقلال، ونتلمس استرجاع سيادتنا الثقافية واللغوية بعد السياسية والاقتصادية لتشييد دولتنا الوطنية.
لقد كانت القضية الثقافية والمسألة اللغوية، أي عروبة المغرب، في قلب الصراع الذي خاضته الحركة الوطنية المغربية ضد الاستعمار الفرنسي الذي بدأ نشر هيمنته على المغرب منذ 1912 تاريخ توقيع عقد الحماية، وتصاعدت أطماعه تدريجيا بعد محاولته منذ 1930 إحداث التفرقة بين العرب والبربر في البلد الواحد الذي يوحده الإسلام وأواصر تاريخية وطيدة، أراد المستعمر تفكيكها عبثا. عقب هذا ولدت الخلايا الأولى للحركة الوطنية لمواجهته وللدفاع عن صرح العروبة والإسلام، وكان من أدوات نضالها إلى جانب إصدار لائحة المطالب السياسية ضد قرارات المحتل، إنشاء المدارس الوطنية في جميع المدن تعنى بالحفاظ على العربية لغة وفقها وأدبا في مواجهة المدّ الأجنبي الذي أنشأ مراكز التبشير ومدارس البعثة الفرنسية مكرسة لتدريس الفرنسية وإرساء عُمُدها ولإعداد أبناء البلد متشبعين بثقافتها لغد مرتقب يعوضونه.
لم يخل المغرب يوما من المكتبات، في الجامعات التقليدية (القرويين في فاس، وبن يوسف بمراكش، وفي سلا وتطوان وطنجة وغيرها) وكذلك في بيوت الفقهاء والأدباء التقليدية، وكم كانت عامرة بالنفائس حوانيت الوراقين في فاس، كما لو أنك في العصر العباسي في بغداد، وقد نهلت منها شخصيا وأنا تلميذ في الستينيات بثانوية مولاي ادريس الشهيرة، وفيما كانت المكتبات الفرنسية في مدارس البعثة حافلة بالكتب الحديثة افتقرنا نحن إلى مثيلاتها بالعربية، أو يصلنا منها نزر يسير، اغتنت منه بصفة خاصة المنطقة الخليفية في الشمال التي كانت تحت الاحتلال الإسباني وتتزود بالكتاب العربي مباشرة من القاهرة وبيروت ودمشق. ما أنس لا أنس أن فاس شهدت في مطلع الستينيات مكتبة عمومية للقراءة بمثابة المركز الثقافي المصري، منها نهلت للمرة الأولى أدبنا الحديث، تؤازرها المدرسة العراقية لتكوين المعلمين. ومثل هذا توالى مع وصول المجلات العربية من بيروت كنا ونحن تلاميذ ثم طلابا نحصل على أعدادنا، مثلا، من مجلتي الأديب والآداب بشق الأنفس وبعد توصية ورُشى للباعة.
تعالوا معي الآن، إلى بيت القصيد الفاجع، من هذه الورقة لنَفِي ببعض الدَّيْن الذي علينا نحن المغاربة تجاه الكتاب العربي في لبنان ورُسله الأولين. يا عجبا، كيف يتوافق توافدهم مع بداية استقلال المغرب(1956) ـ الحق أنهم وصلوا مبكرين منذ بديات القرن جماعة الشوام وأنشؤوا الصحافة في طنجة ـ واتخذوا من مدينة الدار البيضاء محطة نزولهم هي العاصمة الاقتصادية للبلاد ذات المرفأ الإفريقي الضخم ومختبر تحولات وتجارة ونزوح المغرب كله، واختاروا حي الأحباس(الشهير بالحبوس) التقليدي الفاصل بين المدينة العصرية الفرنسية والأخرى المغربية المستحدثة، بينما هو مبان راسخة وشامخة في محيط القصر الملكي دليل المهابة. في هذا الحي المرموق خصت وزارة الأوقاف، بناياتٍ ومكاتبَ للكتبيين. أهم مكتبة تاريخية برزت فيه وزانته تحمل اسم( دار الكتاب) لمؤسسيها عائلة بوطالب، ورائدا الأديب والقانوني عبد الهادي بوطالب(1923ـ2009) صاحب كتاب شهير «وزير غرناطة لسان الدين بن الخطيب» وعديد مؤلفات لغوية وقانونية وحضارية. وجاء ليجاورها في الوقت المناسب في حي الأحباس، وفيه بيتنا، كتبي لبناني (أحمد عيسى) أسس (مكتبة الوحدة العربية) أذكر أني زمن التلمذة أقف أمام واجهته وأبصر خلفها أكداسا من الكتب لا أجرؤ على الدخول من هيبة وغلظة طبع صاحبه أو هكذا خيل إليّ يومئذ والجيب صفر، وما أذكره خاصة أن هذه المكتبة اهتمت أساسا باستيراد وتوزيع الكتاب المصري.
في الوجه المقابل لها في هذا السبيل الملكي المخصص كله للمكتبات، منذئذ وما يزال، ظهرت مكتبة عربية لبنانية أخرى، كانت خافتة الذكر في البداية، أو لأننا نحن التلاميذ ثم الطلاب في منتصف الستينيات لم نكن نقترب منها إلا متفرجين من خارج لا طاقة لنا بسعر الكتاب، شأنها شأن مكتبة أخرى رائدة في الحي ذاته( دار الثقافة) منها اقتنيت بالتقسيط (لا بحر في بيروت) (1963) لغادة السمان، أما (المركز الثقافي العربي) فقد ظل عندي لغزا لوقت طويل. هذه المكتبة خافتة الذكر والمعتمة غالبا يقبع بداخلها كما رأيت شخص ربعُ القامة قمحيّ اللون، يذرَعها طولا جيئة وذهابا، عرضها محدود، وأدركت شيئا واحدا أنها معنية بالدرجة الأولى بالكتاب المطبوع في لبنان وهي مركز ذهبي للطباعة العربية ومؤسسات الثقافة والقومية إلخ، وأن هناك تنافسا خافتا بين هذا المركز و(مكتبة الوحدة العربية) ستكون الغلبة أخيرا فيه له.

ذلك أن المركز الثقافي العربي لن يعرف وجوده الحقيقي إلا بعد أن ينصرف مؤسسه رائف فاضل لأشغال أخرى أهمها إدارة ثانوية تحمل اسمه ويتولى شؤون المكتبة والدار أخوه الشاب نزار فاضل، الذي حلّ بدوره ببلادنا مع مطالع الاستقلال وفيها عاش وتزوج وأنجب وبنى مؤسسة كبيرة صارت معْلمة وهو علَمٌ فيها وخارجها وخط ُّتواصل مع الناشرين والمكتبات في العالم العربي أجمع، إلى أن أسلم الروح إلى باريها(09/11) بالدار البيضاء التي حلّ بها وهو ابن السادسة عشر، وقضى بها أغلب العمر حتى غلبت عاميتها على لهجة الجنوب اللبناني في (رزيا) مسقط الرأس وصار يبزّنا في دارجتنا بصوته الفخم وضحكته المجلجلة.
منذ بداية السبعينيات وصُعدا، سينقل نزار فاضل (المركز الثقافي العربي) من مكتبة مشرقية في حي المكتبات ب(درب الحبوس) إلى دار للنشر حقيقية، ثم تتحول على يديه وببصيرته وقدرته على إبرام العلاقات وتحسّس طلب السوق المغربية إلى محور ومحطة مركزية للكتاب العربي الحديث بصفة خاصة التي زاد عليها الطلب مع تنامي شُعَب الأدب الحديث في الجامعات المغربية وتضاعف عدد الخريجين من الأساتذة، وإقبال طبقة وسطى مستنيرة على القراءة، وانتقال منتظم بين الدار البيضاء وبيروت حيث للمركز مقر يسيّره مدير فرعي. ثم ما لبث الراحل نزار فاضل أن انخرط في عملية النشر انطلاقا من المغرب باستقطاب الأقلام الأكاديمية والفكرية والأدبية، يكفي أن نذكر منها علمين شامخين في الفكر العربي هما محمد عابد الجابري وعبد لله العروي، تلاهما بعد ذلك رعيل من خيرة الباحثين والأدباء المرموقين.
ما حوّل الدار إلى منارة ثقافية، وإلى عنوان للقاصي والدّاني لا غنى عنه لمن يطلب الكتاب العربي، وبين الكتاب من يبحث عن أفق أوسع من الجغرافيا الوطنية للنشر والتعريف بنتاجه.
وللإنصاف لابد أن نذكر في سياق تعداد مناقب الراحل ومأثرة ما بنى، أنه كان لسنوات طوال مسنودا ومرافقا بصهره المقدام بسام كردي الذي أمضى بدوره زهرة شبابه في هذه المؤسسة ورسّخ أعمدتها وغدا اسمه مقترنا بها، وهي به، في الظل الوارف لصاحبها نزار فاضل. لم يكن هذا اللقاء صدفة ذاك أن ب. كردي الذي استقل لاحقا بنفسه وحلق عاليا في دار جديدة (المركز الثقافي للكتاب والنشر والتوزيع) ويواصل منجزه بخبرته في الميدان، هو سليل أحد أبرز أساتذة البعثة العربية الذين وفدوا إلى المغرب مع تباشير الاستقلال فدرّس إلى جانب م ع الجابري في ثانويات الدار البيضاء، ثانوية الأزهر البيضاوية الوطنية الشهيرة بالذات، وعلّم أجيالا منهم اليوم أدباء وباحثون بارزون، فلم يكن صدفة أن تأتلف هذه العائلة اللبنانية السورية التي صار المغرب وطنها الأول، وغدت شجرة باسقة بأغصان يانعة من تربية وتكوين ثم كرست لنشر المعرفة والدعوة للتنوير في فروع الثقافة العربية والمعاصرة.
لن يفوتني في هذه المناسبة التذكارية والأليمة، أن أشير إلى أن العمل الدؤوب للراحل نزار فاضل وصحبه خلق دينامية في ميدان المكتبة والنشر بالمغرب، بأن أصبح مركز استقطاب وحرّض المغاربة على إطلاق مشاريع في هذا الميدان بطريقة احترافية لا هواة غالبا أو باعة كتب، ما يمكن معاينته حاضرا، فأصبح مركز فاضل اليوم كوكبا في مجرّة متنوعة وغنية وكله يعود يوسّع وينوّع حقل الكتاب ومجال النشر ودعم المنتوج الثقافي الإبداعي العربي.
هذا وسواه يبين أي دور أنجزه الراحل، والإحساس العام بفداحة الرزء الذي خلفه رحيله في نفوس المغاربة سواء زملاؤه مغاربة ومشارقة، أو الكتاب المرتبطون به أصدقاؤه خاصة، أو عموم القراء وحتى من العابرين في درب الحبوس البيضاوي، كان ويبقى أسرة، هي الآن في حداد. كان الراحل نزار فاضل رحمه الله على موعد مع الموت ذات أجل، فأعد لذلك العُدّة تاركا خلفا حسنا ثلاثة أشبال: فاتن وهيثم وفادي فاضل، وهم سيواصلون الرسالة بعده، إليهم وإلى آل كردي كافة العزاء الحار، وإلى أسرة النشر العربية جمعاء، اعلموا بيروت والدار البيضاء تقرآن الفاتحة مَثنى في جنازة رجل.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 24/11/2021

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *