يحمِل أعباءَ قرن ويدعونا نحن النُّوَّم: استيقظوا!

أحمد المديني

لا يحتاج المفكرون والفلاسفة وأضرابُهم، إن وجدوا، في الرباط وتونس والقاهرة، أن يمشوا بين الناس وينزلوا إلى الأسواق، ويشمّوا رائحة العرق وربما وقعت عينُهم صدفةً على عجوز تفترش الأرض أمامها عرّام طماطم وفلفل وبصل شبه تالف، أو مُسِنٍّ كفيفٍ في أرذل العمر يسعى(تاعت الله). لا يحتاجون لشمّ الهواء الفاسد كي لا تتلوث الأفكار والمفاهيم ويجرَحَ سكينُ الواقعِ الحادّ جلدَ التجريد، فذا يُعفي من كل مسؤولية، كما يسمح أحيانا بالتزلج على أكثر من صعيد. فإن اتفق أن فكروا في (الواقع) فهم يجلبون شواهده من الماضي لهم سكنٌ ويؤولون. حسبوا قالوا كلمتهم، ويؤمنون زعما بالتقدم والديالكتيك ولا يضيرهم الصمت والخنوع كالعبيد.
« وضربنا لكم الأمثال» لكن شتان. لو علم إدغار موران أني أضعه في حلبة جِوار ومقارنة مع التنابل والغافلين لغضب مني، وما أنا إلا حسنُ النية أبغي زيادة إشهاره قدوة للعالمين، لينظروا كيف يستطيع مفكر جدير بلقبه ومهنته وبإنسانيته أيضا أن يحمل عبء مائة عام ونيف على كاهل العمر والعقل والقلب، تمشي خلفه وهو يتقدمها بخطو وثيق في القرن الجديد. في عيد ميلاده الذي احتفلنا به جميعا، وفي هذا المنبر، حول كعكة كتابه» دروس قرن من عمري»(دنويل 2021) عرضنا زبدة خبرة حياة طويلة وعميقة وعديدة الوجوه والمكونات، وضعت صاحبها في مفترق طرق الإيديولوجيا والمقاومة والفلسفة وعلم الاجتماع والعمل الميداني، ملتحما بالثقافات واللغات هو المتعدد الأصول، لكن من ظل مناهضاً للظلم مدافعاً عن حقوق الإنسان بأوسع من بنودها القانونية والسياسية، لذلك هو مفكر ملتزم وإنساني في آن، لم تقيّده الدوغما يوما، ومن بوصلة الوعي المركب خاض جميع معارك الحرية والتقدم.
أعود لإدغار موران، بالأحرى هو من يعيدني إليه بجاذبية وقوة اقتراحاته وموقفه الذي لا يتخاذل وعبّر عنه في كتابه الأخير الصادر هذا الأسبوع:» Réveillons-nous»(لنستيقظ) (دنويل 2022). يمكن وصفه بإيجاز بأنه بمثابة بيان( مانفست) تجاه ما تعرفه فرنسا المرحلة الراهنة وهي تتهيأ للانتخابات الرئاسية في خضم هجمة كاسحة للتيارات اليمينية المتطرفة وترويجٍ للأفكار والشعارات العنصرية جاعلة الإسلام والمسلمين والمهاجرين كبش فداء فيها.قلةٌ حقا في صف المفكرين والأدباء الآن في فرنسا من نسمع صوتهم في المعركة الحامية التي تدور رحاها بين جبهة الرجعية وإيديولوجية التمييز والإقصاء والترهيب بما يسميه أساطينها ب» الإحلال الكبير» للمهاجرين والأجانب(القصد العرب والمسلمون، مطلقا) والقوى اليسارية والتقدمية والجمهورية التاريخية، المشرذمة، حاليا. لكن موران، كما عوّدنا في مواقفه وتحليلاته، لا يكتفي بمعاينة الظاهر وشجاعة الفضح والتنديد بدُعاة التعصب العرقي وأنصار الليبرالية المتوحشة، بل يستحضر التاريخ الناصع والمظلم لفرنسا ومحيطها بدءاً من الثورة الفرنسية بفصولها المتناقضة والأهمّ بحصيلتها الزاهية نصيرة الحريات والأنوار.
يدق أبو الفكر المركب جرَس الخطر منبهاً أولا بمقولة دالة للفيلسوف الإسباني أورتيغا إي غسي:» نحن لا نعرف ما يحدث لنا وهذا بالضبط هو ما يحدث لنا». يعني الوضع الراهن لفرنسا حيث انتقلت من أمة إنسانية إلى شعب يضيق بالآخر، نعم لهذا أمثلة في الماضي عند عديد شعوب خاصة في فترة الأزمات، لكن الانفراجات جاءت، ومنذ تشريع اللائكية بقانون 1905، احتدت المواجهة بين فرنسا الجمهورية، مناصرة دريفوس، والاجتماعية، وأخرى رجعية داعية لعودة الملكية، وحظوة الكنيسة وطرد اليهود. ونعرف موالاتها للفاشية ومناهضة الشيوعية، وبعد هزيمة 1940 وصول المارشال بيتان إلى الحكم وتبديله شعار الجمهورية ب»العمل، العائلة والوطن». عقب التحرير اندرج اليمين التقليدي في خط قبول قواعد الديموقراطية متمسكا بالنهج الرأسمالي، بينما مثلت الشيوعية سبيلا للخلاص مع غض الطرف عن شمولية النظام السوفياتي. تعايش الطرفان الشيوعي والديغولي، ثم تغوّل اليمين المتطرف في نهاية حرب الجزائر، ظل ينمو في انغلاق هويّاتي ومناهضة للمهاجرين غذته موجة الإرهاب. فإذا أضفنا لهذا الأزمات الاقتصادية المتكررة واحتجاب أفق الأمل، ثم الوضع الوبائي الأخير وتبعاته فهمنا عُصاب المخاوف الحالية ويقظة موروثة عن العهد الاستعماري.
صوتها العالي الآن بوقاحة نعلم هو المُساجل إيريك زمور، يَعدُّه إ. موران استمراراً لجان مورا، ومنظرَ اليمين الرجعي، من يعتبر فرنسا مهددة بالغزو الأجنبي متناسياً تعدّدها الإثني ومتبنياً أسطورة القوميات الحديثة المبنية على التطهير الجنسي. يرى موران أنه مظهر واحد فقط لأزمة شاملة تتعدى إشكالية الهجرة وحدّ التسامح إزاءها، وانهيار أحزاب اليسار، ومعضلة الديموقراطية، وتورّم الدولة البيروقراطية واللوبيات، كذلك ما هي أزمة حضارة وإنسانوية، بل يراها أبعد من هذا كله ممثلةً في أزمة فكر. بدأت منذ هيروشيما ونقلت البشرية إلى عهد جديد، امتلكت تسع دول السلاح النووي ومعه أصبح العلم مفتاح تقدم البشرية أداة لموت كل الحضارات، هكذا كشفت العقلانية العلمية عن وجه لا عقلاني. مع تقرير البروفيسور Meadowsعن(حدود النمو)(1972) تشكلت الأزمة الإيكولوجية لكوكب الأرض، وحده القابل للعيش، وتبين معها كيف أن التقدم التكنولوجي يقود عكسا إلى الهلاك.لم يكف، لنفع في كماشة من يريدون السيطرة علىى الحياة بهزم الموتle transhumanismeوصولا إلى وضعية كوفيد 19 وما جره من ويلات على البشرية بتشابك أطرافها وأعاد النظر في مفاهيم اقتصادية عولمية تزايد معها الانغلاق الهوياتي والبحث عن ضحايا عابرين.
يعرف موران الأزمة بأنها خلل يلحق نظاما مستقرا، ويمكن أن تُحلّ بطرق محافظة أو إصلاحية أو ثورية، كذلك بتركيب جديد بقديم، بيد أن المجتمعات الحديثة لا تتوفر على ضوابط مستقرة ترتبط بنمو اقتصادي مستمر ما يتسبب ذاته في الكارثة الإيكولوجية جوهر أزمة الحاضر، فيما وقف النمو يمكن أن يؤدي إلى انهيار مثل 1929 قاد نحو النازية فالحرب. أما الحل، فلا يأتي إلا بالتحكم في نمو لا يلوث ويدمر، وبآخر منقذ وخلاق. هذا لا يمنع في رأيه أزمة الفكر الخفية الكامنة في عزل وتباعد المعارف ويعقّد الحلول المجتمعية. كذلك إلى المفهوم(الخطي) والميكانيكي للآتي والوثوق بمستقبل متوقع، ذلك أننا لا نستطيع الإفلات من الشكوك، والمعرفة هي سباحة في محيط من المجهول. لم يتوقف موران عن البحث عن حلول لمشاكل البشرية، وحول أزماتها الأخيرة وضع كتاب” لنغيّر الطريق” لتجاوزما هو أكثر من ذي طابع اقتصادي والوصول إلى الطابع الأنتربولوجي المميز للمغامرة التي نعيش راهنا. كما أنها ليست إجراءات مراقبة السكان ما يصلح أمورهم وهي إنما تصنع مجتمع الخضوع. كيف الاهتداء إلى ما يساعد البشرية على هزم مصاعبها المتفاقمة؟ سنرى هذا في الأسبوع القادم، وفي الانتظار لنرفع صوتنا مع موران:” لنستيقظ!”.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 09/03/2022