يوسف فاضل صديق الفراشات، روائيٌّ يُشرّفنا

أحمد المديني

لو لم يُعنون يوسف فاضل روايته «حياة الفراشات» (منشورات المتوسط، 2020) لغيّر العنوان بجدارة إلى (الخاسرون)، هكذا هم أبطال وشخصيات الروائي المغربي منذ روايته الأولى «الخنازير» (1983) عبور اًب «مترو محال» (2006) و«طائر أزرق نادر يحلق معي» (2013) وانتهاءً بعمله الأخير هذا، نراه يجمع خلاصة تجربة كتابة روائية امتدت أربعة عقود، وأثمرت نصوصا بصمت متن الرواية المغربية شكلا ومضمونا، وانتزعت رقعة في خريطة الرواية العربية الواسعة، خصوصا المنفتحة على عوالم منزوية وبأدوات مبتدعة.
يترك يوسف فاضل الجماعات المستقرة في ثقافتها وتقاليدها المتوارثة، بشخوص وأسلوب حياة وتفكير وسلوك نمطي مع بعض الهزات التي واجهتها بالمجتمع الحديث وأمكن تسريدها وتحويلها إلى أوضاع روائية بمرايا واقعية محاكاتية، لينتقل إلى أخرى نبتت إلى جانبها وتناسلت من كل النواحي تقريبا على هامشها تجرّب ما سماه مؤسس القصة المغربية الحديثة محمد زفزاف في رواية شهيرة له «محاولة عيش» (1985)، ومن هنا تؤسس كيانا مستقلا لا بالرغبة، ولكن بقوة الواقع الذي تعيش فيه مسحوقةً أو منبوذةً أو متطلعةً إلى آمال مستحيلة. لذلك تنجب شخصيات هجينة ومشوّهة، هي التي تبوأت بطولة الرواية العربية ما بعد الواقعية، وأعطاها فاضل ونظراءُ من جيله في المشرق العربي حق الكلمة وشرح الخاطر ورسم أوضاعها المستجدة طبقيا واجتماعيا وسيكولوجيا، متقاطعة مع خريطة تحولات وطنية كبرى.
مثال آخر منه تُصوره” حياة الفراشات”، تروي قصة مجموعة من الأفراد نساءً ورجالا جمعتهم مدينة الدار البيضاء، الفضاء الأثير للمؤلف، المناسب لجميع النازحين في المغرب لموقعها الاقتصادي المركزي، القادمين إليها من الأرياف والأطراف، ويبدؤون حياة كالتي نرى فيها (حبيبة) عاملة في مصنع نسيج ستة أيام من سبعة، من الشروق إلى الغروب، وأخوها (سالم) يتقلب مغنيا في علب الليل بطموح أن يصبح ذات يوم مغنيا. ونلتقي (هاني) القادم من بلدة (بنسليمان) ليصبح مصارعا محترفا في كنَف خالٍ له صاحب ناد للمصارعة. هؤلاء يعيشون متجاورين في حيّ واحد من الأحياء الشعبية، وفي الطرف الآخر من المدينة العصرية يقيم أبو حبيبة وسالم من عاش تجربة جندي مع القوات الفرنسية في فيتنام، ثم هرب ليلتحق بثوار الفيتكونغ ويقتنع بعقيدتهم الثورية الشيوعية، عند عودته إلى المغرب يصبح مناضلا نقابيا ويعيش على أمجاد ماضٍ تولّى، بينما في الأصل غادر باديته هرباً من جريمة قتل. هناك أفرادٌ آخرون هم خلايا إضافية تنمّي نسيج الجماعة الجديدة ضمن بانوراما مغرب جديد تضطرم فيه العواطف الفردية، ويتقلّب في عصف أحداث جسام. العاطفي أولاً، ما يجمع العاملة حبيبة بهاني المصارع جمعاًعاطفيا ووهميا أكثر منه واقعي؛ وسالم بفاطمة محبوبته المفترضة، وكلتاهما علاقةٌ مآلها الخيبة والخسران، وأفدحُ منها المصير الفاجع لسالم الذي سيوجد في المكان الخطأ والوقت الخطأ حين قصد الإذاعة الوطنية صبيحة يوم لتسجيل أغنية هي فرصة حياته، صادف يوم حصول انقلاب عسكري حقيقي بالمغرب(10يوليو 1971 المعروف بانقلاب الصخيرات) ويطلب منه الضباط إذاعة البيان رقم 1. وهي حادثة واقعية جدا، استعارها المؤلف من وجود ملحن مغربي شهير(عبد السلام عامر) أرغمه العسكر على إذاعة البيان وهو كفيف، بعد أن ارتعب المغني عبد الحليم حافظ وكان موجوداً بدوره في الإذاعة لتسجيل أغنية بمناسبة عيد ميلاد الملك. في الرواية يتبع التسجيل الاعتباطي سالم لعنةً تقلب حياته وتُرديه إلى حتفه اعتباطاً أيضا ضمن جو هيمنة رُقباء مخفيين من آلية نظام للحكم في مرحلة عصيبة بداية السبعينيات وتحضر في الرواية بمشاهد دامية.
تًبنى رواية يوسف فاضل من تيمة الخسران التي هي وضعية ومسار الفئات المهمّشة في المجتمعات العربية، تتكسّر مطامحُها على صخرة الواقع الصلدة، وهو ما ينتهي إليه مصير حبيبة، أحلامها أكبر من طاقتها، وهي عرضة للطامعين وامرأةٌ منذورةٌ للشقاء بفقدان أخيها، ولا سبيل لها إلى الخلاص؛ وسالم، الذي لن يحظى حتى بقبر إذ تختفي جثته عقابا لإذاعته بيان ثورة لا يدَ له فيه؛ وانقشاع وهم هاني بأن المدينة أكبر منه والمصارعة حقيقية ورمزية كذلك؛ وأبو حبيبة وسالم عاشور يجترّ بطولة حرب آفلة حالماً بمدينة شيوعية فاضلة مُحاطاً بنُدمان تنابل. وتبنى الرواية على تركيب علاقة الزوج(بينوم) يقترن شخصان في علاقة، مفارقتها أنها ذات بعد أو من جانب واحد(هاني متعلق بحبيبة، اللاهية عنه ـ سالم متعلق بجارته فاطمة المتلاعبة به ـ حجّاج مُسيّر المعمل متعلقٌ بحبيبة المتمنّعة عليه ـ عاشور متعلق بحلم وهمي لا يُطال، وشباب الدرب متعلقون بانتصار لناديهم للمصارعة ويهزمون)إلخ. ثمة طرف ثالث، هو الموضوعي الذي يضمن للرواية شرعيتها ويمنحها صلابتها وإلا عُدّت نشيدا عاطفيا باستيهامات شتى ودفق نجْوَى تستغرق صفحات طوال من العمل، الأرضية التي تنهض عليها الشخصيات، هو الواقع المركب بعلائقه الاجتماعية الاقتصادية والسياسية. وتُبنى رواية فاضل على نقض واقعية المحاكاة بإبدالات عديدة تعوّض السرد الخطي بالاستدعاء والمونولوج الداخلي، وتعدد مواقع السارد، ونجدها تلغي السرد تماما لصالح رسم المشاهد بالخيال والاحتمالات، في تراوح منتظم بين الواقع والتخييل، الصورة والتقرير، مع خطابات ميتا ـ نصية تعلو فيها نبرة الاحتجاج والإدانة ضد سلطة غاشمة أو دجل ديني وإما تقاليد بالية. بيد أن أهم ما يميز(حياة الفراشات) وروايات يوسف فاضل هو اعتمادهما على ركنين أساسيين: الأول، يعتبر مؤسسا لفن الرواية، يرجع إلى رابلي الباني للجو الكرنفالي، الاحتفالي، يقدم لنا منها عديد مشاهد فُرجوية طريفة، مصدرها نوعية شخصياته، وميله لكتابة السيناريو حيث مقاطع كثيرة من جنسه تنجم عنه إطالات واسترجاعات ووقفات تعمل فيها كاميرا وثمة ركح يؤدي فوقه ممثلون؛ والركن الثاني،هو التعبير المجازي حيث تترى مقاطع أشبه بالشعر أو بصياغته، تتفوق على الشخصية وتصبح زينة قراءة لتعميقها وإن جاءت أكبر من مقاسها.
لنخلص في الأخير إلى ما يلي: إن يوسف فاضل فيما يستعير النظام العام للرواية يقترح علينا شكلا مختلفا مستثمرا بداخلها تعددية أجناسية وتنوعا في التعبير يرتئيه الأنسب لرصد واقع يتبدل ومعيش أفراد إيقاع حياتيهم متكسر تبلعهم ومطامحهم قوى عاتية، فماذا يا ترى تفعل بالكتاب الذين يقدمون إبدال الهامش بطولة جديدة يواجه بها الخاسرون قوة الغالبين؟ هنا تتعمق هاوية الوهم أمام الأدب لتغذيه بهذا الزاد الضروري، ويوسف فاضل سيد هنا ويشرفنا.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 21/04/2021