أبناء الريف: في عمق الوطن، وجذور لا تنكسر

سعيد الخطابي (*)

منذ أن بزغ فجر المقاومة الوطنية ضد الاستعمار، كان الريف دائمًا في قلب المغرب، قلب ينبض بالوطنية والكرامة، ويمثل روحًا صلبة لا تنكسر أمام التحديات. وعندما نتحدث عن الريف، فإننا نتحدث عن تاريخ طويل من البطولات والتضحيات، وعن أبناء هذه الأرض الذين قدموا، ببسالة نادرة، أغلى ما لديهم من أجل الدفاع عن وطنهم وأرضهم.
إن الريف جزء لا يتجزأ من وطننا المغرب، وجذوره ضاربة في عمق تاريخ المملكة الشريفة. من معركة أنوال الشهيرة التي قادها المجاهد البطل محمد بن عبد الكريم الخطابي ضد الاستعمار الإسباني، وقبله الشريف محمد أمزبان، إلى مشاركة أبناء الريف في كل مراحل تحرير المغرب من براثن الاستعمار، كانت المنطقة دائمًا حاضرة في الدفاع عن وحدة وطنها وكرامتها.
لم يكن الريف يومًا مجرد رقعة جغرافية، بل كان قلبًا ينبض بالحرية والعدالة، وقوة محورية في تاريخ النضال الوطني. ارتبطت هذه الأرض العطرة والشامخة بالمقاومة والشجاعة، وكانت رمزا للصمود في مواجهة الظلم. ومن هنا، فإن تاريخ الريف ليس مجرد ذكرى؛ بل هو جزء من الهوية الوطنية المغربية المتجددة، هو الذاكرة الحية التي يتوارثها الأجيال ويشرفون بحملها.
ومع ذلك، في الآونة الأخيرة، انتشرت تصريحات نشاز من شخص يدعى «يوبا الغديوي «، الذي تنكر لهذا التاريخ المجيد، واستهدف استغلال مشاعر أبناء الريف للترويج لأفكار تدعو إلى التفريط في وحدة المغرب. هذه المحاولات، التي تصطدم بمبادئ الوحدة الوطنية، ليست سوى صيحة في واد ومحاولات ضالة للترويج للانفصال عن المملكة المغربية من أرض الجزائر. إنها خيانة واضحة للوطن، وعمل لا يمكن قبوله تحت أي ظرف. مساس بالأمن واستقرار بلادنا، ومحاولة بئيسة وفاشلة لزعزعة اللحمة بين أبناء الشعب المغربي وتشويه الحقائق التاريخية.
والأمر الذي يزيد الأمور وضوحًا هو أن الغديوي لم يقتصر على إطلاق تصريحاته الهدامة ضد المغرب فحسب، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بتوجهه إلى الجزائر، حيث وجد هناك دعما لخطابه الانفصالي. إن احتضان الجزائر لهذا الشخص المأجور، الذي يروج لأفكار تقف ضد وحدة المغرب، هو أمر مرفوض بشدة ويجب التنديد به بكل قوة. فالجزائر، التي طالما ادعت دعوة الاستقرار في المنطقة، أصبحت اليوم ملجأ لأحد «المرتزقة» الذين لا يهدفون إلا إلى زعزعة الأمن بشكل بغيض.
من المؤسف جدًا أن الجزائر، بدلا من العمل على تعزيز العلاقات الأخوية والمصالح المشتركة مع المغرب، اختارت أن تسهم في احتضان الأصوات النشاز التي تعيش في خيال مجنح، وتروج لأفكار شاذة فارغة من أي قيمة أو منطق. إن ما يروج له المدعو «يوبا الغديوي» لا يعدو كونه أضغاث أحلام وأوهام لا أساس لها، تضر بمستقبل المنطقة وتساهم في إشعال فتيل الفتنة بين شعوبها.
كما أن الجزائر، التي طالما كانت تدّعي دعوة الاستقرار في المنطقة، قد اختارت منذ أكثر من خمسة عقود أن تخلق وتغذي صراعا مفتعلا بشأن الصحراء المغربية. فقد دعمت الجزائر أطروحة جبهة البوليساريو خارج نطاق الشرعية الدولية، مما أدى إلى تأجيج النزاع في المنطقة، على الرغم من أن الأمم المتحدة أكدت مرارًا أن القضية تتعلق بوحدة الأراضي المغربية. وقد أثبتت الجزائر بذلك أنها ليست قوة دافعة من أجل التفاهم والتعاون الإقليمي، بل أصبحت مصدرا للتوترات والفتن، وملاذًا لاحتضان دعاة العصيان والتمرد.
إن الجزائر لم تقتصر على هذا الصراع المفتعل فحسب، بل قامت في أحداث 1975 بطرد العديد من العائلات الريفية المغربية من أراضيها وتشتيت أسرهم. تلك العائلات التي كانت قد استقرت في الجزائر تعرضت للتهجير القسري، ومصادرة ممتلكاتها وأموالها ظلمًا وتعسفًا. هذا التصرف الدنيء يُعد جزءًا من سياسة الجزائر في السعي إلى خلق قلاقل للمغرب، ويظل موشومًا في ذاكرة أبناء الريف وجرحًا غائرًا شاهدا على معاناتهم من جراء الظلم والتهجير نحو الحدود. وعليه، فإن التساؤل يظل قائمًا: أي دعم يمكن أن تقدمه الجزائر لأبناء الريف اليوم، وهي التي نكلت بهم وطردتهم من أراضيها سنة 1975؟
إن تصريحات الغديوي لا تمس فقط بتاريخ الريف والمغرب بأسره، بل هي إهانة مباشرة لأبناء الريف داخل الوطن وخارجه. ولعل ما يعزز قوة الارتباط بالوطن أن الريفيين الأحرار لطالما ضحوا بأبنائهم من أجل الحفاظ على وحدة الأرض والمصير. أصبح من الواجب على كافة المغاربة أن يتوحدوا في مواجهة مثل هذه التصريحات المضللة، وأن يكونوا على وعي تام بخطورة ما يحاول البعض فرضه من أفكار غريبة عن واقعهم وتاريخهم.
الريف اليوم، كما كان دائمًا، هو قلب المغرب النابض، وهو الشامخ الذي لا تزعزعه المؤامرات ولا التهديدات على مر العصور. كان أبناء الريف يقفون صفًا واحدًا في مواجهة التحديات، سواء في زمن الاستعمار أو في مواجهة أي محاولات للتفرقة. وقد تجسد ذلك في تأسيس جيش التحرير الوطني، الذي انطلق من الشمال من الريف، للدفاع عن استقلال الوطن ووحدته الترابية. كانت تلك الخطوات بمثابة شهادة حية على عمق ارتباط الريف بمغربه، وعلى عزم أبنائه على حماية كل شبر من أرضه.
ومن جهة أخرى، يعكس أبناء وبنات الريف اليوم نفس الروح الوطنية التي حملها أجدادهم في معركة التحرير. لقد كان أبناء الريف ولا يزالون في طليعة الدفاع عن مصالح الوطن العليا تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، وأثبتوا دائمًا أنهم جزء لا يتجزأ من المغرب الموحد بكل مكوناته العربية والأمازيغية والأندلسية والحسانية. وهم يعبرون، في كل محفل سياسي أو ثقافي، عن انتمائهم العميق للوطن، ويشيدون بتاريخهم المجيد الذي لا يمكن أن تمحوه أي محاولات لتشويه الحقائق.
الريف يظل الحاضن للعديد من الإنجازات الوطنية في مختلف المجالات، حيث ساهم أبناء الريف بفعالية في تنمية المغرب وتعزيز إشعاعه على الصعيدين الإقليمي والدولي. واليوم، هم جزء أساسي من مسيرة التنمية التي يقودها جلالة الملك في جميع أنحاء المملكة.
إن أبناء الريف، ومن خلال هذه المساهمة الفاعلة، يظلّون رموزًا للوفاء والانتماء العميق للوطن، ويمثلون النموذج الأصيل في الحفاظ على الوحدة الوطنية. إذًا، يجب على الجميع أن يدركوا أن الريف ليس مجرد منطقة جغرافية، بل هو جزء من الهوية الوطنية المغربية، التي تمتد عبر قرون من النضال والمقاومة. وعندما نتحدث عن الريف، فإننا نتحدث عن تاريخ حافل بالبطولات والملاحم، وعن شعب أبى إلا أن يكون جزءًا من هذا الوطن العظيم.
أما ما جاء به «يوبا الغديوي» من محاولات لإثارة الفتن في الجزائر ضد وحدة المغرب، فهو عمل لا يتماشى مع القيم الوطنية السامية. ولذلك نقول إنه لا يمكن لأي شخص أن يدعي تمثيل الريف أو أي جزء من المغرب ويعلن انفصالًا عن الوطن الأم وهو في قلب الجزائر، هذا البلد الذي للأسف شهد تاريخًا من التآمر ضد المملكة.
لذلك، نجزم أن هذا النوع من التصريحات لن يزيد الشعب المغربي إلا إصرارًا على حماية وحدته، ولن يفلح في شق صفوفه. فالريف سيظل في قلب المغرب، والأبناء الذين ولدوا على هذه الأرض الطاهرة سيبقون أوفياء لوطنهم، يدافعون عنه بكل ما أوتوا من قوة من أجل الحفاظ على وحدته واستقلاله. لأن الريف، كما باقي مناطق المغرب، هو جزء من تاريخ مشترك ومصير واحد، سيبقى ثابتًا في وجه كل التحديات. وسيظل المغاربة جميعًا، من طنجة إلى الكويرة، في وحدة تامة، لأننا نعلم أن الوحدة هي سر قوتنا.

(*)الكاتب الإقليمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالحسيمة

الكاتب : سعيد الخطابي (*) - بتاريخ : 27/11/2024