أخلاق الفرد وأخلاق الدولة

مصطفى خُلَالْ

مصطفى خُلَالْ

في كل سنة تصدر تقارير تصنف مستويات تقدُم الدول: ديمقراطيتها، حقوق الإنسان فيها، عدالتها، بل وحتى مستوى الأخلاق فيها. . .وفي كل تقرير وفي كل هذه العناصر تتصدر الدول الاسكندينافية القمة، وتحتل دول الجنوب آخر التصنيف. وهو ما يعني أن العمل من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وسيادة الأخلاق الفاضلة ، أي الاحترام التام للقوانين ومقتضيات وواجبات السلوك المدني، جميعها مطروحة للعمل من أجل أن تسود في المجتمعات. إنها معركة تتصف بالديمومة.
إنه كلما طرح موضوع الأخلاق، طرحت علاقتها بالفرد وبالدولة.
ففي الأخلاق ما هو من صميم الذات، وفيها ما له رباط قوي بالدولة.
تشكل القيم (مفردها في اللغتين الفرنسية والعربية: (قيمة) مجموع المعايير التي تسمح لنا ب (الحكم) على منحى السلوك الفردي. وتتلخص وظائفها الاجتماعية والحضارية في إقصاء (الشر) وجلب (الخير). ومثلما يكافح الإنسان من أجل تحصيل الخيرات المادية فإنه بالمثل يكافح أيضا من أجل سيادة قيم الخير…
وأكثر ما يميز المسألة الأخلاقية أن سَنَدَها لا يوجد في سلطة خارجية، بل في سلطة ذاتية يُتَوَرَّثها من الخلية الأُسَرية كما سنرى . فنحن في مجال القانون نستند إلى كابح خارجي هو (السلطة السياسية) المخول لها الحفاظ على سلامة العلاقات الغيرية، أي علاقة الفرد بالأغيار، وهو ذا ما نسميه (القانون)، في حين أن السلطة الذاتية هي ما يتحكم في الأخلاق. في المجالين معا هناك دائما (واجب). فالواجب في القانون تحميه السلطة (القبيلة أو الدولة)، أما الواجب في الأخلاق فيصدر – أو هكذا يُفْتَرَض الأمر – عن الذات الفردية التي تتم تنشئتها تربويا واجتماعيا على هذا الواجب منذ صغر الصغر: وهو ما يعني أن الأسرة هي المشتل الأول والرئيسي لرسوخ القيم الأخلاقية، ثم يليها في المقام الثاني المؤسسة التي تتفرع إلى كيانين اثنين: المؤسسة التعليمية باعتبارها مسؤولة عن تشكيل وعي الأفراد، ومؤسسة الدولة باعتبارها حكما لممارسة الرقابة التي بدونها تسود الفوضى وطغيان القوي على الضعيف.

انطلاقا من هذه الأسس المسلم بها في المجتمع البشري، والتي تميزه عن كافة ‘’المجتمعات’’ الحيوانية نواجه هكذا أخطر مكون في المسألة الأخلاقية كما في القانون، ويتعلق هذا المكون ب(المسؤولية). في المجال الأخلاقي، يحاسب الفرد ذاته طبقا لذات المعايير القيمية التي تربى عليها وتَشَكًلَ وَعْيُهُ بخصوصها. وعلى هذا النحو تكون الأخلاق أوسع وأشمل من القانون نفسه. وهو المعنى الذي نقصده حين نتحدث عن (الضمير) الذي يصاب إصابة بليغة لحظة خيانة الفرد لخلقية من خلقيات النسق الأخلاقي، ذلك أن القانون هو مجموع تشريعات يمكن أن يطالها التغيير طبقا للموانع والصوارف البشرية الخاضعة بدورها لآثار الفعل الزماني البشري . لذا يصح القول إن المسؤولية في القانون محددة بالتشريع الخارج عن إرادة الفرد إذ القانون إرادة جماعية متغيرة في حين أن المسؤولية في الأخلاق نابعة من ذات الفرد، فهي إذن ثابتة. إن المسؤولية في الأخلاق منبنية على مراقبة الفرد لذاته، ومراقبة كل فرد لكل فرد، في حين تبقى المسؤولية في القانون منبنية على مراقبة الدولة كحكم يملك من الأدوات المادية والتشريعية ما يسمح له بتطبيقها على الجميع دون تمييز.
يسمح لنا هذا المنظور بالقول إن هناك ضميرين: ضمير الفرد الذي تقوم لديه المسؤولية الأخلاقية على خط ثابت لا يتغير تراقب فيه الذاتُ الذاتَ. وهذا يفيد بأن أهم ما في الأخلاق هو رباط الإنسان بذاته. فهو خَيِر من ذاته ولذاته فلا ينعكس عليه إذن وحده إذ تطال خيريته مجتمعه الأقرب والأبعد معا. والعكس صحيح. وضمير الدولة التي تنهض فيها المسؤولية على قوام آخر مختلف متغير بتغير الثقافات والأحوال والزمان والمكان وجميعها تصنعها الإرادات الجماعية للشعوب هنا وهناك، وهي إرادات تتحكم فيها ظروف تخص كل كيان دولتي.
في الأخلاق يبقى مثلا تقديس الأم هو ذاته في كل الثقافات وكل الأزمنة وكل الأمكنة في كوكب الأرض، ومستقبح بل ومستحرم كل سلوك لا يحترم هذه القداسة، وفي القانون مسموح تناول مشروب الخمر الذي تقوم عليه اقتصاديات وعادات غذائية راسخة جدا وطقوس احتفالية بل وكرنفالية ميسمها البهجة الحياتية في معظم أمكنة هذه الأرض، وغير مسموح به بل يجر تناوله إلى الحبس حتى، في جزء من ذات المعمورة.
وهذا يفيد أنه في الأخلاق لا يتملك الفرد سلطة الضمير من ذاته بل من الأسرة، ذلك أن الأخلاق تُوَرَث من الآباء والأمهات في كل الثقافات بدون استثناء. وهذا الأمر صحيح في المطلق لا نسبية فيه.
قَرَنًا بين الدولة وعلاقتها ب(القانون) ودورها في تطبيقه بعد أن يكون المشرع قد شرعه. فهل للدولة علاقة أيضا بـ (الأخلاق) ؟
لقد تَمَثًلَ كل الفلاسفة القدماء مشكلة الدولة على أنها أساسا مشكلة أخلاقية. فسواء تعلق الأمر بسقراط أو أفلاطون أو أرسطو أو الفارابي أو ابن سينا أو روسو أو هيوم أو هوبز أو كانط أو هيغل…، فإن السياسة هي العنصر الرئيسي بل والمركزي للأخلاق، ومنها تتفرع أخلاق الفرد. وهم، جميعهم، يرون في الدولة الكيان الذي يعلو بشكل طبيعي على الفرد. وهم يجمعون على أمر أساسي يقول إن السياسة والأخلاق تهدفان إلى تحقيق نفس (الغاية) ألا وهي جعل الناس فضلاء ثم سعداء. الدولة إذن ينبوع الفضيلة. نعم، هو ذا ما يفترض فيها. وهذا يعني أنه يُطرح على الدولة كوظيفة تنشأ من طبيعتها الأصلية، وكواجب تقتضيه شرعية وجودها (التدخل) لحماية الأخلاق تماما كما هو شأنها في مسألة مراقبة تطبيق القانون.
التدخل الأخلاقي للدولة بالنتيجة له وجهان: (وظيفة) من وجه و (واجب) من وجه ثان، فهما متلاصقان في كيان واحد. والفرد في الوظيفة كما في الواجب يستفيد ويخضع.
هكذا فإنه وعلى هذا النحو لا يمكن فصم أخلاق الفرد عن أخلاق الدولة، وهو الرأي عندنا…

الكاتب : مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 10/05/2022

التعليقات مغلقة.