أعِد لي حُبّ الصِّبا، أُهديك سلامَ المغاربة

أحمد المديني
1
أنا المغني المُتعب
لعقت المُرّ، ذقت العذب
وأجرَع اليوم العلقم لا أعجب
أنا الشاعر يتوارى وقافيته لا تتعب
يرى الغربان تحلق فوقه لتنَعب
وحياضُه يَقحمُها كل من هبّ ودبّ
سأبقى ساقيا للحب وكأس النّخب
نكاية في سقط المتاع سأظل ألعب
أحلامي أزلية وهويتي أن أغضب
2
هذا استهلال، فقط، كي يعلم أهلُ الدار أنّي لا أفارقهم حتى والغضا ليس دانيا. سننجو أو يحرقنا اللهب سوِيّاً وسواسية. أنا دائما في الاستهلال لأرعى نبت الغضاضة وأصمد في وجوه الغيلان والشرور العاتية. تتمثل لي وجوههم كالحة، حناجرهم نابحة، أصواتهم غوغائية جائحة، وقامتي أمامهم منصوبة رغم عوادي الدهر، تجديفي في البحر وتجريفي مع البر لا نهائية.
3
كلما كبُرنا قدُمنا، تعتّقنا فصرنا أطيب ما في قاع الخابية. ساعةٌ واحدة فقط أو أقلّ ليُذّلَّ الأنذال. أعمار تفنى منا وتُدك جبال، جباه عالية وأعناق لا تنحني إلا لربها تهاب ساعة واحدة الفانية. كلما قدُمنا تفتحنا أشرقنا ونشرنا الشّذى مثل زهور البيلسان، تاريخنا، أسماؤنا، من مجالس الحبور إلى شواهد القبور هي العنوان، مرسوم عليها الوجوه البيض صافية لا واحد منا خان.
4
هكذا مذ ولدنا يسبقنا اليقين، بأننا نكتب بأيدينا وإرادتنا وبإصرارنا العنيد ما سيرسم على الجبين. لا ابتآس من أصواتنا، هي حناجر هتفت أمس، فإن بحّت اليوم عذرها صمت الأنين، عاكفة كما كانت، مكابدةً متمسكةً تظل بحبل الصبر، قانتة لا تسجُد إلا لربّ العالمين. أرِني وجهك. من أنت ما خطبك؟ وجهي مرآتك تفضحُك، فلستَ إلا شروي نقير جعجعة ولا طحين!
5
هل تعرفون الأيدي التي تقبض على الجمر، تثبُت على الحق في السِّر وفي الجَهر، مذ وُلِدتْ تتقلب بين الحر والقرّ، الشمس تدبغها، والبرد يجرحها، وسجاّن الحاكم بالأصفاد أعمارا يقيدها إلى السراديب يرميها وبالمواثيق يساومها ويُجّن زبانيتُه وحُجّابُه كيف بجبروته ولا يَشريها؟ هل أكلم نفسي، أم تُراني أطلب المحال، بعد ما عشناه وما زال، هل ثمةَ رجال أم كله بَطر؟
6
هل في القلب مكان لجرح جديد،
أم تجرّح الجُرح حتى لا مزيد؟!
أنا الطفل الكبير الغاوي الشريد
باقٍ يناجي دمك الحر أيّها الشهيد
7
صغارٌ تراهم في الذهاب وفي الإياب. طوالُ قاماتٍ، بِلا ظل، ديدنُهم القعودُ خلف كل باب. أنا لا أعني أحداً قد فات وقت العتاب. لا ثمةَ عدو، ولا حضنٌ للصحاب، كم يَفجَعني رزء هذا الغياب. الحب كان، اشتعل وذاب. والبحر الذي خضنا وصارعنا فيه الإنس والجن صار بلا عباب. عيونُهم مسمولة، وذاكرتهم مثقوبة، ومُناهم طلب الثواب؛ ما كلّ هذا العجب العجاب؟!
8
«يا من غدوتُ به في الناس مشتهرا
قلبي عليك يُقاسي الهمّ والفِكرا
إن غبتَ لم ألقَ إنسانا يؤنسني
وإن حضرتَ فكل الناس قد حضرا»
مذ غاب الحبيب يا ابن زيدون، وها أنذا كأني فقدت السمع والبصرا
9
وفي الغياب استفقت من شبه غيبوبة فطوّحت بي الذكرى إلى زمن الطفولة البعيدة، رغم بُعد المسافة بيننا وطول الضّنى، أنا ساهر، كما يقول عباس بن الأحنف، وهي راقدة. جلبتُها إلي بعد أن فرقت بيننا ذاريات العمر ومكائد. أول قبلة قطفتُها من خدها ثم تتالت على النَّحر وشّحته قلائد. خيْطٌ ناعم بين الغواية والهوى، سَمِّه نزق الصبا، ما كان ليبلغ صهد الجوى.
10
طفولة حب يهودية، والله الذي خلق جميع الأديان شاهد. نصعد إلى سطح البيت لنلعب، وحده شاهد. تصحب أمها تزورنا كل أسبوع وهي تحمل آنية طعام، ولا تغادر بيتنا إلا وبيدها إدام. أوريت حين تغيب يغطي النهارَ الديجور، واسمها لمّا سألت معناه النور. كم من شهر لعبنا، تساقينا بالعيون، تعاشر الأمهات والآباء، المسلمون واليهود مغاربةٌ إخوةٌ وجيرانٌ وأصدقاء.
11
كان آباؤنا وحدهم يعرفون فلسطين باسم القدس الشريف، ولم أسمع أو أقرأ في كتاب أن اليهود أعداء. ذات صباح والذي تلاه، وبعدهما كم من زفرة وآه، انتظرت عبثا أوريت، بقوة ما اختفت وأهلها من بلدتنا، سطيحة بيتنا، صارت هباء. أبي سكت عن الغائبين، وبقيت أقَبّلُ ذا الجدار وذا الجدار، أهمهم باسمها بين الشفتين، ثم علمت أنها رحلت إلى إسرائيل، أي فلسطين!
12
هذا ما لا يعلمه من يدعى مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي في الرباط. قرأت له تصريحه يعبر عن استغرابه وأسفه لعدم تطبيع الشعب المغربي مع (بلده). لم يقنع بالتطبيع بين الدولتين، وهذا من طبيعة إسرائيل لا تشبع والأرض تبلع. يعي جيدا أن السلام الحقيقي لا يتم إلا بين الشعوب، وأن المغاربة لا يقبلون اغتصاب فلسطين. أعد لي حبّ الصِّبا وسلامهم أهديك.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 14/01/2022