أفق الجهوية المتقدمة ورهاناتها الواقعية

سلوى الدمناتي دكتورة في القانون العام

يطرح موضوع الجهوية ومشروع الحكم الذاتي مدى راهنية ومشروعية تبني وتطوير الخيار الجهوي الموسع وكيفية مساهمة الجهوية في دعم وحدة وتماسك الدولة وتدبير اختلافاتها طبقا لاستراتيجية التنظيم الجهوي. ذلك أن مقومات نظام الحكم الذاتي کدينامية سياسية لتطوير الجهوية بالمغرب أصبح من أهم الميكانزمات المؤسساتية التي تميز نماذج الجهوية السياسية في بعض الدول لمواجهة المطالب الانفصالية. فبعد مرور أزيد من عقدين من الزمن على تبني المغرب لنظام الجهة، برز التنظيم الجهوي بالمغرب لمواجهة العوائق التي تعرقل الانطلاقة الحقيقية للتنمية الترابية وتحديد المنطلقات الأساسية لتصحيح الاختلال الجهوي، والتجاوب مع الديناميات الحقوقية والثقافية، باعتبارها مناعات قوية، ومشروعيات مستدامة لصالح البناء الجهوي بالمغرب.
كما هو معلوم، إن الحكامة الجيدة تقوم على عدة أسس واضحة تتألف في ما بينها وتتداخل من أجل الوصول إلى الأهداف المبتغاة. فالإدارة عملية إجرائية مستمرة تعمل على تحقيق أهداف متعددة باستخدام الجهد البشري والاستعانة بالموارد المادية للدفع بمفهوم حسن تدبير المرفق العام إلى الأمام، وتوخي الفعالية والنجاعة بأقل تكلفة.
ويبقى الهدف الرئيسي والمحوري من وراء تبني خيار الجهوية بمختلف أشكالها هو السعي لتقليص الفوارق الجهوية وتنمية مجموع جهات البلاد تنمية متوازنة. كما أضحت الجهوية آلية تدبيرية لتعزيز لامركزية صنع وتنفيذ القرار الترابي، ودمقرطة تسيير وتنظيم وهيكلة مختلف دواليب الدولة ومجالات ومكونات المجتمع.
وقد عمل دستور 2011 على الأخذ بتوصيات اللجنة الاستشارية للجهوية، حيث أقر بالجهوية المتقدمة كمستوى ترابي يحتل مكانة الصدارة على باقي الجماعات الترابية خصوصا في مجال إعداد وتتبع برامج التنمية الجهوية وإعداد تصاميم التراب الجهوي.
وتماشيا مع هذا الفهم قدمت الجهوية في بعض تطبيقاتها كإجابة سياسية ديمقراطية على المطالب الانفصالية ، ومن ثم أضحت آلية ناجعة في تدبير الاختلاف وتحصين الوحدة الترابية للدولة الأم .
لذلك فالجهة في المغرب مطالبة أكثر من أي وقت مضى بأن تنتقل إلى الشريك الفعلي، ولعب دور المنشط الحقيقي للتنمية والمنسق الاستراتيجي لتدخلات مختلف الفاعلين والشركاء الاقتصاديين والاجتماعيين والمدنيين.. كما أن هناك دوافع سياسية يجب استحضارها، بحيث أن رسم آفاق رحبة لها بالمغرب يفرض على مختلف المتدخلين والفاعلين أثناء عملية البناء والتأسيس عدم تغييب إشكالية المسألة الترابية لبلادنا – قضية الصحراء، مع الأخذ بعين الاعتبار التجارب المقارنة الناجحة في مجال الجهوية لفرز أوجه الاختلاف والتشابه بحثا عن فرص إنجاح التجربة المغربية، وكذلك الاستفادة من الأخطاء والإخفاقات التي سجلت بصدد الممارسة والتوقف عند طبيعة الجهوية السائدة في المغرب، استحضارا لخصوصياتنا والمستجدات المتمثلة في تقديم المغرب سنة 2007 لمقترح الحكم الذاتي بالأقاليم الجنوبية للمملكة إلى المنتظم الدولي من أجل إنهاء نزاع الصحراء.
ومن خلال تجربتي العملية المتواضعة، يتضح جليا أنه وبالرغم من النقائص المسجلة على القانون التنظيمي للجهات، إلا أنه استطاع أن يستجيب لبعض مطالب القوى السياسية والنقابية والأكاديمية والفكرية.
غير أنه وإن كان قد نجح فعلا في بعضها، إلا أنه بلجوئه لاستعمال مصطلحات قوية، كتكريس الشرعية الديمقراطية للمجلس الجهوي، وتقوية دور رئيس مجلس الجهة، وتغيير الوصاية بالمراقبة الإدارية على عمل المجالس الجهوية، وقواعد الحكامة الجيدة في تدبير الشأن الجهوي، وربط المسؤولية بالمحاسبة، وإرساء آليات الديمقراطية التشاركية وغيرها، أعطت صورة مبهمة عن قوة هذه المستجدات وفعاليتها، وهي بالرغم من أهميتها كخطوة أولية في بناء مشروع الجهوية المتقدمة، إلا أن الصورة التي رسمت لها تتجاوز الواقع، وتوحي بتقدم حقيقي لمسار بناء الانتقال الديمقراطي على المستوى الترابي.
وبناء على الملاحظة الحثيثة للواقع الميداني، يلاحظ أن ما أحرزه دستور 2011 من تقدم بالمقارنة مع سابقيه، أعقبه تراجع كبير على مستوى القوانين التنظيمية الترابية، وكل اختصاص جديد يمنح للمجالس الجهوية يوازيه قيد من طرف السلطة المركزية، وحضور هذه الأخيرة واضح من خلال التأشير على المقررات الأساسية لمجالس الجهات، فالقرارات والمشاريع الكبرى للمجالس المنتخبة التي تهم السياسات العمومية الترابية، تبقى رهينة بموافقة ممثلي السلطة المركزية الذين يمارسون رقابة إدارية مشددة على قرارات الرؤساء ومقررات المجالس المنتخبة، في ظل استمرار نفس المنطق السابق الذي كان يحكم نظام الوصاية.

وحتى إذا تحدثنا عن المستجدات التي جاء بها القانون التنظيمي للجهات، عبر منح رؤساء مجالس الجهات صفة الآمر بالصرف، فإن الأمر يثير مجموعة من الإشكالات في التطبيق، من قبيل العراقيل التي يجدها هؤلاء من طرف بعض المؤسسات الجهوية كالخزائن الإقليمية، منها التماطل في الأداء وإرجاع القرارات، وتصل أحيانا لحد رفض الأداء محل قرار الآمر بالصرف. وحتى في الحالة التي يقوم فيها رئيس الجهة، طبقا للقانون، بتوقيع الأمر بالتسخير وتبليغ القرار للخازن الإقليمي طبقا للمساطر الجاري بها العمل، يمكن أن يتم رفض الامتثال. ومثل هذه الممارسات تنعكس بشكل مباشر على التنمية، ويتمثل الخطر الأكبر في التخوف من قيام مثل هذه المؤسسات بممارسة مهام إدارية مسيسة غرضها إضعاف بعض الأحزاب، لكنها تضعف في الحقيقة مسار التنمية وتؤجل معها البناء الديمقراطي الجهوي الترابي.
إن إشكالية تطور أداء العمل الجهوي يرتبط بمجموعة من الإكراهات الأخرى كذلك، فعملية صناعة النخب المحلية من الإشكاليات التي يثيرها المشهد السياسي المغربي المتأثر بطبيعة المنظومة الحزبية وتعدديتها، التي تبقى مجرد تعددية حزبية فقط للتأثيث وليست تعددية سياسية على أساس الرؤى والبرامج، مع ما تنتجه من ضعف في الديمقراطية الداخلية وهشاشة الولاء الإيديولوجي، نتيجة التمكين للأعيان وظاهرة الترحال السياسي. وقد أكد ذلك جلالة الملك في خطاب العرش بتاريخ 29 يوليوز 2018 عندما أشار إلى عطب المنظومة الحزبية وإشكالية إنتاج النخب الترابية في معرض حديثه عن إشكاليات الأحزاب. الأمر الذي ينعكس سلبا على إنتاج الكفاءات المنتخبة، وهو ما يجعل المنتخبين في درجة أدنى من ممثلي الإدارة الترابية، ويعطي دائما التفوق لهذه الفئة المستفيدة من برامج للتكوين والتكوين المستمر.
ويجب التأكيد إذن على أن المغرب يحتاج لجهوية تتبوأ فيها الجهات مكانتها الاعتبارية، من منطلق مبدأ التراكم في إعمال اللامركزية. جهوية قائمة على معايير دقيقة في التقطيع، تستحضر فيها المعطيات التي تشمل مختلف جوانب المنظومات الاقتصادية والاجتماعية والجغرافية والديمغرافية والتاريخية والثقافية والبيئية.
وبناء عليه، يمكن استخلاص مجموعة من التوصيات الهادفة لتجاوز إكراهات التنزيل السليم للجهوية المتقدمة في أفق الاتفاق على تطبيق نظام الحكم الذاتي بالأقاليم الصحراوية والتي تتمثل في:
العمل على تجاوز الفهم الذي كرسته تجارب الجهويات السابقة وجعل نظام الجهوية المتقدمة نقلة نوعية في مسار الإصلاح الشامل على المستوى السياسي والمؤسساتي والإداري والتنموي.
تسريع إحداث البنيات الإدارية والمؤسساتية للوكالات الجهوية وتعزيز قدراتها ومؤهلات مواردها البشرية لضمان نجاعة وفعالية تدخلاتها.
تقوية الشراكات بين الجماعات الترابية والقطاع الخاص عند وضع وتنفيذ المشاريع.
تعزيز منطق التعاون بين السلطات الترابية والجماعات الترابية بإعمال منطق المواكبة القائم على تأمين تطبيق القانون مع الاحترام التام لمبدأي التدبير الحر وربط المسؤولية بالمحاسبة.
وضع مخطط استراتيجي بغرض القيام بتنسيق مختلف التدخلات وتحقيق التقائية السياسات القطاعية على المستوى الجهوي سواء في مرحلة البلورة أو التنزيل.
تنمية قدرات المنتخبين عبر التكوين المستمر ومن خلال ربط شراكات على المستوى الوطني والدولي بهدف ملاءمة هذه القدرات مع متطلبات الممارسة.
توفير موارد بشرية مؤهلة وذات كفاءة عالية تناسب طبيعة المهام التي تضطلع بها الجماعات الترابية وتوزيعها وفق هيكلة إدارية محكمة مع وضع إطار قانوني لإسناد المسؤوليات.
توفير الموارد المالية اللازمة من أجل تحقيق التنمية الجهوية المنشودة مع اعتماد معايير عادلة ومنصفة في توزيع الموارد الضريبية بين الجهات، وتوسيعها وتعزيزها وفق إصلاح النظام الجبائي المحلي.
إحداث وزارة للجهوية والجماعات الترابية تناط بها ممارسة مهام التوجيه والتنسيق بين مختلف الجماعات الترابية ومساعدتها في إعداد وتنفيذ مخططات وبرامج تنموية.
إن اختيار تطبيق نظام الجهوية المتقدمة في مختلف جهات المملكة بما فيها جهة الصحراء يعد اختيارا استراتيجيا، لأن تطبيق الحكم الذاتي من جهة واحدة لن يحل المشكل، بل سيؤدي إلى فقدان ورقة قوية وخطيرة في نفس الوقت، قد يؤدي فقدانها إلى الاضطرار الى تقديم مزيد من التنازلات التي لا يمكن أن يتحملها المغرب سياسيا، كما أن المغرب حريص على الدعم السياسي المعبر عنه من قبل قوی دولية متعددة. لذا فالجهوية المتقدمة في الوقت الحالي هي أفضل اختيار في انتظار تنزيل وتطبيق الحكم الذاتي في مرحلة مقبلة، بحيث تكون الجهوية المتقدمة كمرحلة أولى لاختبار قدرة الصحراويين على تسيير شؤونهم بأنفسهم بكل ما يتوفرون عليه من قدرات بشرية ومالية، مع الحرص على تفعيل النموذج التنموي الخاص بالأقاليم الجنوبية، الذي يتضمن مشاريع مهيكلة تروم التخفيف من حجم كلفة قضية الصحراء عن كاهل ميزانية الدولة.

 

الكاتب : سلوى الدمناتي دكتورة في القانون العام - بتاريخ : 06/07/2023

التعليقات مغلقة.