أمنا الأرض تنادي: «لا تقتلوا.. احترموا حقوق الإنسان»
عبد الرحمان بوكيرو
كان من المفروض أن ينتهي عهد القرابين البشرية منذ زمن إبراهيم الخليل، كان من المفروض على أتباع ملة إبراهيم أن يكونوا قد فهموا بأنه من أجل الدفاع عن الأرض أو عن القضايا العادلة ومن أجل مواجهة التحديات الصعبة لا يحتاج الأمر إلى التضحية بالبشر، بل إلى إعمال العقل الذي به فهم إبراهيم أن الشمس والقمر والكواكب ظواهر طبيعية لا علاقة لها بالألوهية، لو كانت الرسالة الإبراهيمية قد فهمت مبكرا في هذا الاتجاه الإنساني العقلاني، لما حدث كل ما حدث من الحروب والفتن والمجازر والاغتيالات والإعدامات التي راح ضحيتها أعداد لا تحصى من البشر.
أقول هذا لأنه في الوقت الذي يحيي فيه العالم اليوم العالمي لحقوق الإنسان في 10 دجنبر، ما زال أتباع ملة إبراهيم يقتلون بعضهم بعضا من أجل الأرض المقدسة وغير المقدسة، وهم لم يفهموا بعد أن الأرض هي الأم الحنون لنا جميعا نحن البشر ترضعنا بمياهها وتطعمنا بثمارها وتمنحنا حنانها بجمال بيئتها، نحن كلنا أبناؤها وهي ترفض أن يقتل فرد واحد من البشر باسمها أو من أجلها، إنها تنادي أحفاد إبراهيم وأحفاد أجداد إبراهيم أن لا تقتلوا واتركوا الموت يكون حسرا من صلاحية القدر وحده، وأوكلوا أمر تدبير التوترات الحادة التي تنشب بينكم إلى دولكم المدنية التي تحترم حقوق الإنسان.
ومن ناحية أخرى يشهد المغرب في هذه الأيام حدثا تاريخيا ذا بعد حقوقي، فقد أصدر مجلس الأمن مؤخرا قرارا يزكي فيه الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب كحل للتوتر الذي نشب بيننا وبين جيراننا وإخواننا، ومقترح الحكم الذاتي نابع من رؤية حقوقية تنموية شمولية تحدث عنها جلالة الملك في مناسبات كثيرة، وهو بالنسبة لنا رهان حقوقي وحدوي استراتيجي وكسبه يتطلب منا أن نعمل على نشر الوعي العقلاني لدى جميع المواطنين في بلادنا، من المدن إلى البوادي ومن الجبال إلى الواحات. لكن الملاحظ، أن الأنشطة التي تقوم بها الأحزاب الحداثية والجمعيات الحقوقية غير كافية لترسيخ رأي عام عقلاني واسع، ولهذا أتقدم هنا بالمقترح التالي:
أدعو جميع العقلاء في الوطن بمختلف اتجاهاتهم أن يعملوا على تحويل مجالاتنا العمومية في المدن والقرى إلى فضاءات تعقد فيها أنشطة جماهيرية مستمرة، يؤطرها فاعلون محليون منفتحون يحظون بثقة المواطنين، والهدف من هذه الأنشطة هو إكساب المواطنين ما أسميه هنا بـ”عادة الاهتمام بالشأن العام”، ومن شأن هذه العادة في نظري أن تحقق قفزة نوعية في شخصية المواطن، تحوله من إنسان ذي بعد واحد يعيش في عالم مغلق تحت دكتاتورية الروتين اليومي، إلى إنسان ذي أبعاد متعددة يسمو باهتماماته إلى عالم منفتح على مواضيع أكثر عمقا وأكثر شمولية، إذ لا حضارة بدون عقل منفتح ولا مواطنة بدون حضارة ولا تنمية بدون مواطنة.
إن جلالة الملك يقود بصمت، ولكن بحزم وثبات، مسيرة التنمية والحداثة والوحدة المغاربية، لكن هذه المسيرة تحتاج إلى سند جماهيري قوي، ولا يوفر هذا السند إلا المجال العمومي المؤطر تأطيرا عقلانيا.
إن انغلاق المثقف والفاعل السياسي في مجاله الضيق المهني أو الحزبي أو الجمعوي يؤدي في الحقيقة إلى فراغ سياسي يصعب ضبطه، وقد يملأ هذا الفراغ فاسد يهتم فقط بمصلحته الشخصية ومن بعده الطوفان، أو مغامر مستلب يتساوى عنده الوهم والواقع، أو مستبد همه الوحيد أن يحكم ولو على قطعة محدودة يفصلها عن أرض الوطن، هؤلاء هم المناهضون الحقيقيون للحداثة ولحقوق الإنسان.
لقد استلهمت هذا المقترح من تجربتي السياسية السابقة ومن قراءة للأحداث منذ الربيع العربي وكذلك من حراك فكيك، إن مواطني فكيك مستمرون في أنشطتهم الجماهيرية التواصلية في مجالهم العمومي، وخاصة في ساحتي بير انزران وتاشرافت نطاهير وكذلك في قاعة النهضة وأماكن أخرى في قصور الواحة. صحيح أنهم ينتقدون ويحتجون ولهم مطالب محددة، ولكنهم يساهمون أيضا وبفعالية في أنشطة هادفة كثيرة وهم مستعدون للمشاركة وبحماس في كل الأنشطة الفنية والاجتماعية والثقافية التي تحددها لجنة التنسيق المؤطرة للحراك. وبفضل هذا الحراك تكرست في المجتمع عادات تبدو لي بالغة الأهمية ومن بينها على سبيل المثال فقط: الرغبة القوية في معرفة المستجدات المرتبطة بالشأن العام المحلي، الحضور المكثف في الأنشطة واستمرار هذا الحضور بنفس الزخم حتى نهاية النشاط، قدرة المواطنين على التمييز بين الخطاب العقلاني التحليلي الذي ينصتون إليه باهتمام تام وبين الأساليب الفنية البلاغية التي يتجاوبون معها بحماس. أيضا، احترام الجميع للضوابط التي تحددها لجنة التنسيق المؤطرة للحراك.
لا يمكنني الإطالة في هذا الموضوع، وفي الأخير أرجو من الجميع أن ينظروا إلى حراك فكيك على أنه تجربة متميزة لممارسة فعل سياسي عقلاني، يؤطرها فاعلون محليون يشهد لهم بالجدية والانفتاح والإحساس بالمسؤولية وبعد النظر، كما أرجو من المسؤولين أن يتفهموا المطلب الأساسي الحالي للمواطنين، فالماء الذي يشربونه بالنسبة إليهم ليس مجرد سلعة تشترى مقابل فاتورة، بل هو بمثابة حليب أمهم الحنون التي يحسون بحنانها وعطفها حينما يشربونه.
وأرجو كذلك في هذه المناسبة الحقوقية العالمية أن تبقى الأرض أمنا الحنون بمياهها العذبة وثمارها اللذيذة ومناظرها الطبيعية الجذابة، مصدرا للحياة والحب والعيش المشترك بين جميع البشر لا ذريعة للقتل وانتهاك حقوق الإنسان.
الكاتب : عبد الرحمان بوكيرو - بتاريخ : 10/12/2025

