أنا آخِرُ من يتذكّر تاريخَ الأوهام، فأنجِدني أيّها النّسيان!

أحمد المديني

في هدأَة الليل، والليلُ أدلجَ عميقًا في ظلمته، والسُّمَّار قد رحلوا/
مَن إلى مضجعِها، من هوى إلى قاعِ محنته، ومن إلى خميلةِ أحلام/
وما كان وتولّى من سيرة الغرام، يوم غرق الكلامُ في لُجَّة المشاع/
ظمِئ الرُّمحُ، أسرَجتِ الخيلُ، وعلا الصهيلُ،وما باليد سيفٌ ولا حُسام/
في وقتٍ بين الظلمةِ وانقشاعِ الغمام، سألتني الراياتُ أين الفارسُ الهُمام؟
أنظُر، هي سُحبٌ تتجمّع، وأشعةٌ تحتها منطفئةٌ تكاد تدمع، والسفينُ بلا شراع/
أنسيتَ وعدَك، نكثت بعهدك، أم لا ذا ولا تلك، أم هزمتكَ صروفُ الأيام؟/
علِمتُ أن تدابير الوقت أكبرُ منكم، ويْحَكم، إذا خرج السِّر عن اثنين ذاع/
ذلك الكلمُ المقدّسُ لا يُسمّى، كي لا يصير اسمُه مُضْغةً على أوْسخ لسان/
صدّقتم بشيراً زفّ لكم هذا آخر المطاف، قد قُضِيَ الأمرُ بعد حَجة الوداع/
هرولتم نحو أول منادٍ، لبّيك وحنانّيك، قبِلتم أن تُطعَموا في مأدبة اللئام/
في هدأة هذا الليل الطويل نسيتُ وتذكّرتُ، ثم نسيت أنهم كلُّهم رحلوا/
أريد أن أتنازل عن الكلام والصّمتِ معًا وأَرخِي للأهواء مطلقَ العِنان/
أريد محْوَ الأبْجدية من رأسي وأن أبتُر أصبعًا تُمسك بالقلم هو والّلسان/
أصحو فأنسى أني وُجدتُ ذات زمن، رأيت، حرًّا أصبح بلا اسم ولا عنوان/
في ضجّة النهار وبعد انكسار الأعمار أسدِل السّتار وكلّهم عني غرَبوا/
تداولتني الفصول، فلا موّال بعد يُطرب، ولا عطشٌ يطفئه معتَّقُ الدّنان/
« ظمئنا والرّدى فيك فأين نموت يا عمّة؟» تفجّع المجّاطي وتلته الأكوان/
اختفت مواكبُ أمس، ذبُلت وردة متيران، وربيعُنا صار أضحوكةَ الزمان/
وفرسانٌ على صهوات الرّيح ركِبوا، باتوا اليوم يمضغون العَوْسَجَ هم تعِبوا/
ربما أنا آخرُ من يتذكّر تاريخَ الأوهام وكيف يطيرُ اليمام، فأنجدْني أيّها النسيان/
ربما أنا آخر من يتمعّن في القاموس ويفرِك جلدَ اللغة كي يطهّرها من الأدران/
مُرقّعةٌ هي وكسيحةٌ كلماتُ القطيع وشعراءٌ خردة لا يُصفّون المعنى من الزّؤان/
أفتح عيني حين أفتحُها على كثيرٍ لأرى بددا، فأصرخ في البَريّة: أكلُّهم ذهبوا؟!/
أغلق عيني كي أبقيكِ في مثوى الهوى فلا يمسسكِ ضرٌّ آمنةً مطمئنةً في أمان/
من غُرّة الصّبح يُشرق وجهكِ، اسُمكِ أولّ ما يلثغُ به النهار، سيدةُ الصّوْلجان/
خطواتهم محفورةٌ على جبين الزمن، ووجوههم ناصعةٌ في بقايا الدِّمن، لا هوان/
أعود أطلقها صرخةً هوجاءَ، في أمّة عرجاءَ، ماذا دهانا؟ من نحن؟ أينكموا؟/
ثم أعود أكتُمها، وحدها القصيدةُ شوقي وعِتقي، وشَربةٌ مُزةٌ، وباقةٌ من أقحوان/
في هدأة الليل أناغيها عسى تهديني في المتاه، وتهدي لي الشعرَ المحال الآن/
صدقوني، كلّ ما بتّ أبغي أن أستبدل عقلي وأقايض به ما فات بذاكرة النسيان/ ****
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. والقول فيه الصّالح والطّالح، وبما أني هنا مرسلُه لا يصحّ أن أكون الحَكَم، وإن ملت إلى الشكّ خيرٌ من المجازفة بيقينٍ لا أملكه، لا سيما والعبارةُ الشعريةُ تُنسَجُ بخيط المجاز وتتموّجُ بالصّور لا يحتويها منطقٌ ومجالُها خارجَ وضدّ النّسق. أتركها وأنتقل إلى سِجلٍّ مغاير، فلكلِّ مقامٍ مقال. منذ بداية عصر النهضة ونحن العرب مصلحين ومفكرين مستنيرين ومحافظين نبحث لمجتمعاتنا وأطوار حياتنا عن نسقٍ جديدٍ دليل لها وبه يمكن وسمُها وفهمُها، وأمضينا قرنًا ونيف متذبذبين بين تيارات، متجاذَبين بين إيديولوجيات، ومتطلّعين إلى حداثاتٍ مستحيلة مجتزأةٍ من خارج سياق وأنساق تاريخنا، ولم نعرف كيف نراكمُ وننظمُ تاريخ الأفكار وصيرورةَ الواقع نصوغُ المفاهيم من قلب ثقافة هذا الواقع، هي والمنظوراتُ والمناهجُ والتصوراتُ وخططُ العمل وما نُبصر وندبّر به شؤوننا على يد نُخبٍ رائدةٍ أو مفروضةٍ، وأخرى متسلطة،جلّه يبقى في ديمومة التّجريب، يكفي أن ننظر إلى تعليمنا منذ الاستقلال إلى اليوم، أحوالهِ ومقرراتِه والمبادئ والقيمِ التي يصْدُر عنها والاستراتيجيات المعتمدة فيه، للغة اللغات التي يتم بها وكل الأدوات في نطاقه، ليتكشّف لنا أننا سرنا ونسير بدون فلسفة له ورؤى تتعدّى التحصيلَ العامَّ بأنواعه لتصل إلى إنتاج المعرفة والوعي النقدي والتفكير الخلاق، والثقافة الوطنية كما يجدُر بأيّ شعب أن يبدعَها ويعقِل بها عيشه ويتفاعل مع العالم، منها تصوّرٌ واضحٌ ونسَقيّ لمفهوم الهُويّة لا تسجِنه العصبياتُ الشعبويةُ والنّعراتُ العِرقية، لا يمكن أن تكون بديلاً ولن تشكل سِنادًا لفكرة الوطن الأمة، بل تفكك الاثنين، كذلك الاجتهاداتُ الفوقيةُ على وجاهتها تبقى ظرفيةً تقنوية بمساطرَ إحصاءوية لكن بلا أفق، ذلك أن قراءةَ الواقع وتشريحَه وتفكيكَه ورصدَ مكامنِ الداء فيه والجهرَ بالنوايا لا يكفي، بل بتغييره .
وإلا فما أسعدنا وأغنانا بالمفكرين وجهابذةِ الخبراء والتقنيين ناهيك عن المفوَّهين إذا كنا نكتفي بالرسوم البيانية، والمقولات النظرية، والتباري في الأطروحات من كلٍّ مَذهبٍ ومَشرب، وأولُ ريح تهبُّ من الغرب تُطيح ببنيانها ومناهجها، لنستأنف الغرسَ وننتظر
غيثًا وحصادًا غير مضمونين. حذار، يتهامسون في دواوينهم وأبراجهم، لسنا في حاجة إلى المثقفين، أولئك طلبوا التغيير أمس ففشلوا، مُثُلُهم بارت وعالمهُم انهار؛ وبمثابرة وحيوية منقطعة النظير يستقطبون التابعين والتائبين بعطاءاتٍ مُجزية ووعودٍ سخَيّة، إنما بشرطٍ مقيت: المقايضةُ بالذاكرة لمن ملَكَها، ومحوِ فكرتها لمن يحبو ويتسلّق يريد الوصول، لكن إلى أين؟ كلُّهم ضائعون ويَجهَلون.
في هذه المعركة غير المتكافئة بين الجهل والثقافة، المعرفة الحق وعناد الادّعاء والغباء، هناك موقع تقارب ممكن بين إذا خلصت النيات، هو التفكير في إعادة الاعتبار للذاكرة، بمعنى آخر الوعي أن لنا تاريخا تجتمع فيه بنياتٌ ومرتكزاتٌ وخبراتٌ وحصيلةُ تجارب ومخيالٌ إما أصبح مجهولا أو يُراد محوه ولا يؤخذ
رأي بأي إبدال. لنسأل أطفالنا وتلامذتنا بل وطلاب جامعاتنا التي توزع فيها شهادات الماستر اليوم (بالعَرّام) ماذا يعرفون، مثلا، عن ذكرى معركة وادي الذهب بالأمس القريب، وعن 20 غشت 1953 ذكرى ثورة الملك والشعب، أم يكفي ونكتفي بأن نرفع مع المندوبية السامية للمقاومة أكفّ الضراعة إلى العلي القدير ترحّمًا على أرواح شهداء جيش التحرير؟وكذا وكيت…وكل ذكرى مقاومة وأنتم بخير.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 30/08/2023

التعليقات مغلقة.