أهمُّ من الرابح والخاسر تَعلُّمُ درس التاريخ

أحمد المديني

نحن الذين ننتمي إلى شعوب من العالم العربي وعالم الجنوب، قد نتذكر بصعوبة ووَهَن أننا عشنا وانتشينا بكثير أفراح وزَهَونْا بانتصارات في معاركنا مثل شعوب في مناطق أخرى من العالم، لدرجة أن ما عرفناه من هذا مرّ سريعا «حُلما في الكرى أو خِلسة المختلس». بتنا رغم أنه وُجد في الماضي لا نصدقه، أحاول أن أستعيد أيام استقلال المغرب من بين غيوم الذكريات وما غطاه بعد سنوات من سُحُب مُدلهمة. نعم، كنت طفلا، وهذا لم يُنسني بهجة طافحة في العيون تسرح في أجساد تقفز كالنوابض فوق أزقة متربة، ورجال ومعهم صبيان يهرولون في الطرقات كأنما أصابهم مسٌّ من جن، بجلابيب وأسمال، أغلبهم فقراء، قد زيّنوا قبل ذلك بيوتهم بالأعلام، وساحوا في ربوع التراب الوطني المستعاد يهتفون: بن يوسف إلى عرشه!
هذه ذكرى بعيدة ومنسيّة، تحضُر مرةً في العام يومَ عطلة، وخمد بريقُها ولم تعد تشغَف بها النفوس، رموزُها وأعلامُها ماتوا، وبقية ينتظرون الأجل، ولا تثريبَ على جيل اليوم لم يعرفها وانطفأت جمرتها. بيد أن ذكرى عظيمة أخرى قريبة في الأفق، ونحن بمُفعم وطنيتنا وملء قدراتنا معبؤون من أجلها، مثلتْ إعجازاً في تاريخ مغربنا الحديث، المسيرة الخضراء، الذين وُلدوا في يومها هم الآن في العقد الخامس من أعمارهم، فكيف بالذين خاضوها وصاروا نَسْيا منسياً أو في عداد الراحلين، أضحت واقعا نقبِض عليه نارا وترابا نذودُ عنه ليلا ونهارا، لكني أخشى إن لم أحس بأنها تبْهت وتندرج في سجل العادي المتوارَث بيننا نحن الشعب الذي لا يحفل بالموروث، أو يُغلِّب غثَّه على سمينه، فنضيع، ومعه تاريخُنا مَرَّ مرور الكرام.
ولنا تاريخُ كفاحنا الوطني أُسدِلَ على مجده وزعمائه الستار، أسماؤهم غير مقررة في الكتاب المدرسي، شأن أغلب مفكرينا وكتابنا الرواد، في بلادهم غرباء ونصوصهم مُغيّبةٌ كأنهم عار، واسأل لماذا؟ من يقرر؟ من يضع هذا ويُزيح تلك؟ ما هي الإيديولوجية والخلقية والفلسفة المعرفية من وراء هذا الاختيار وذاك؟ ثم أخيراً وليس آخراً ممن تتكون النخبة التي تُعِدّ أطباق التاريخ والثقافة والإبداع الوطني لتقدمه للنشء وتهيئهم مواطنين عارفين بمكوّنات أمتهم؟ أسئلتي مِرْوحةٌ واقفة لأن الريح ساكنة منذ وقت والأسئلة المقلقة أصحابُها مزعجون يُحالون مسبقا على الهامش، وهم أنفسهم يعلمون علم اليقين أن المتاح لهم هو هامش الحياة، أي التفكير والإبداع، لأن هذه هي الحياة الآدمية، الطبيعية، وإذا انعدمت صارت أقرب للبهيمية.
ولنا تاريخنا النضالي، منذ ما أعقب الاستقلال والقوى الوطنية الديموقراطية تؤسّس أوضاعه وتسبح في بحره الهادر، لكي تبني مغربا حرّا بحق، يُلبيّ حقوق ومطامح أبنائه، عصفت بهم أيدي البطش، وتكالبت عليهم سنوات التنكيل من الداخل، وصارت الزنزانة مصير كل موقف وتنظيم حرّ، ارفع رأسك إن مشيتَ تحت السماء فإنك قد لا تراها إلا بعد أعوام، أو من فجوة في المنام. كما لن يرى ويسمع أيّ تلميذ ولا طالب ما جرى لصورة البلاد، كيف يعيش العباد، بين مقررات الدراسة وإعلام الدولة محوٌ وصمتٌ وهيئاتٌ لتصفية الحساب مع الحيّ والجماد.
وإذن، وقد حُرمنا مثل باقي شعوب الأرض من مناسبات الفرح بأيامنا والزهو بالانتصارات، هل تُختزل حياتنا في جرد السالب والخسارة؟ هل أنجرّ مع اليائسين، واستعيد عنوان مسرحية سكنت جزءاً من شبابي واهتديت بها زمنا فكرة ودليلا: «انظر وراءك في غضب» (1956) لجون أُوزبورن، حتى إني عميت عن رؤية نقيضه ؛ هكذا تربينا نحن الذين خرجنا من بركان مارس 1965 بالدار البيضاء، والحمم لمّا تزل بين الضلوع أو نقذفها نفثاتٍ في الزمن الضائع؟ النَّكِدون وحدهم والخائبون من ينكرون أن بلادنا لم تَنْمُ وتتطور، وعيشُنا اليوم لا جدال أنعمُ من أمس، والذين يَحنون لما يسمونه « الزمن الجميل» لم يشاهدوا بؤسه، ولا قاسوا مِحنه وفاقته، والبساطة والفقر والخنوع ما هي مزايا وأقمار في ليل التخلف والاستبداد والحرمان والأمية، وباختصار مغرب اليوم ليس مغرب أمس، هذا تحصيل حاصل، لكن ماذا بعد؟
ذا واحد من أسئلة خرج مئات من المغاربة يوم العشرين من فبراير 2011 ليطرحوه علَنا في الساحات، انضموا إلى عشرات الآلاف في المدن على امتداد العالم العربي، في مدى إطاحة الشعب التونسي بالدكتاتور بن علي(14 يناير 2011) وامتد فتيلُها اشتعل في مصر خاصة فذهب بكرسي مبارك لا بنظامه، ثم بالقذافي، وانتشر خرابا في سوريا، وبرزت موجة احتجاج ومظاهرات سلمية في بلادنا بمطالب وشعارات كانت ملحة ومعلنة من قبل. أتذكر ذلك اليوم الصّحو(20 فبراير 2011) كنت في الدار البيضاء صدفة، وقادتني قدماي إلى ساحة الأمم المتحدة الشهيرة بنافورتها وحمامها المأسوف عليهما قبالة مبنى الولاية . نعم، هل ذهبت لأشارك في شيء أم مستطلعاً؟ لا أذكر، ولا غيري. كنا قلة في البداية، ننظر في وجوه بعضنا بريبة وحذر وتساؤل صامت، هل سيحضر آخرون، ألن يخافوا، سيكبر التجمع، وإذا كبُرنا وصرخنا غضبا، ألن يحضر» الأشاوس» لتنزل الهراوات على الضلوع والرؤوس؟؟ الكاميرات مسلطة من شرفات المبنى الموريسكي للولاية، الساحة بمن وما فيها ملء عدساتهم،حدثت تجمعات ومسيرات في مدن مغربية أخرى، وهتفت الحناجر، دمامل الخوف تفجرت في ساعات، كان الشباب في حاجة إلى إعلان الغضب وقد طال الانتظار، ثم انفضّت الجموع.
ما أكتب الآن صدى وظلّ ذكرى لا يعُوّل عليها، وإلا فالتاريخ ما سيدوِّن إذا تحرر من القيود ما وقع أسبابا وأحداثا ونتائج، وحينئذ سيُسَجّلُ الحدثُ بحسم في روزنامة الأيام المغربية المجيدة، وعلينا أن نعتبره مناسبة زاهية، فوق حساب الربح والخسارة، وهذه الأخيرة تحديدا. حلّت الذكرى قبل أيام وسمعت النّدب والنعيب وتعليق رأس20 فبراير على حبل المشنقة بنوع من التشفي والترويج من جديد لزعم فكرة المؤامرة، سببا لانتفاضة استيقظت معها شعوبٌ من سُباتها وهزّت قلاع حكام سادرين في استبدادهم ونهبهم، وإذا لم تكن الآمال قد تحققت، وعادوا هم وطغمتُهم إلى غيّهم يهمعون، فليس معنى هذا أن التاريخ يرجع إلى الوراء ولا أن هذه الشعوب محكومة بالعيش في ربقة الاستعباد إلى الأبد. لا بأس، هذه خسارة أخرى في سجل خسارات فادحة مُنيَت بها، لكن المعركة لم تنته ولا تُحسم للطغاة، وليس لهم أن يفرحوا بانتصار رخيص على المكبلين. هذا، طبعا، لمن يفهم التاريخ ويعرف كيف يستفيد من دروسه.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 02/03/2022