أيّها التراب، كم نُحبّك، كم نَفديك.. وأخيراً جرحتَني!
أحمد المديني
أنا من جيل لم يلعب إلا قليلاً، لم يُتَح له ما بأيدي وأرجلِ صبيةِ وفتيةِ هذه الأيام، بلا حساب. وبما أن اللعبَ أقربُ إلى غريزة للإنسان في طفولته، وبعضٌ يمتدّ عندهم اللعبُ إلى الكِبَر بأشكال، فإننا نحن أطفال الخمسينيات كنا نتدبر أمور تسليتنا بأيّ شيء وكيفما اتّفق، نحن أبناءُ الشاوية والدار البيضاء القديمة، جُبلنا من التراب وبه قُمِّطنا ودُبِغنا ولم يكُ لهذا علاقة بسَمْتِ غنىً أو فقر، بل هي الطبيعةُ التي وُلدنا فيها ونحن جزءٌ منها مثلَ الشمسِ والسماءِ والأشجارِ والبقولِ والزهورِ وأعشاش العصافيرِ، ضوءُ القمر وحده يفضح نَزْرَ أسرارنا، والأهم كثيرٌ من التراب، سواء خشِناً أو رطْباً، يابساً ومعجوناً، صيفاً وشتاءً، يمتد أمامنا في الحقول، والمدينة لمّا تحاصر الإنسانَ بعد، وتحبس بين الجدران والطوابق الأحلامَ، كنّا نملك أحلاما تمشي على قدمين، ولا تحتاج إلى أن يُرخي الليلُ أسداله، وحدها تفلت من عقال فتخِبُّ وتثِبُ وتحلّق بين يابسةٍ وسماء، البناتُ يصنعن الدُّمى بشرائطَ وأعوادٍ من قصب، ويزيّننَ خدودَها بالحنّاء والحرقوس، ونُراودهنّ خُلسةً نتحايل كيف نبوس، لكنهنّ يعيّرننا انظروا إلى سحناتكم وثيابكم وأقدامكم، ويْلي، يَخ، كيف تطمعون في الزوهرة ورقية ومينة وكلكم غيْس وتراب!
قليلةً كانت الطرقات بإسفلت، الأزقةُ طويلةٌ وإمّا هي متعرّجةُ بلا أسماء، تُعرَفُ عناوينُ السكان بعلامات، دار ولد فلانة وحانوتُ علاّن. لا يطيب لنا إلا التراب، يدور فوق أديمه الخذروف، ليتكسّر تحت وقع مهماز الشاطر تطير الشّقوف، ثم على سطحه الخشن تتعفّر الوجوه وتتصارع الأجسادُ لغةَ شقاوات، وبرهنةً على بطولات وهمية، في رُقعةٍ صغيرةٍ منه يُعزُّ المرءُ أو يهان. الإسفلت يبقى هناك في(الفيلاج) في الحيّ الأوروبي ذي الأزقة المنسّقة بالأرصفة المرصوصة بالأشجار المغسولة بخراطيم مياهٍ صافية تجد هؤلاء الأطفال أنفسَهم يتقافزون خلفها وحولها مثلَ جِراءٍ ليُسقَوا ماءً زلالاً، أو يبغون استحماماً، لا يسبحون إلا في المياه العكرة تُسمّى ضاية. كم مضى على استقلال المغرب اليوم، لا طاقة لي بالحساب، لترى الصورة ذاتَها تتكرر تقريباً في التفاوت المريع والظالم لتوزيع تراب الأرضِ الواحدة، لشعبٍ واحد، هذا يملكُ، وذاك عَدَم.
بالتوازي، كان الترابُ هو بابُ الخروج من الجهل والانتقالُ لتعلّم ألف باء العلم، باللّطف أو القَسر لا اختيار، لندخل إلى لمسيد، الجامع، كي نتعلم القرآن، لم يُعرف يومئذ أنه الطريق الأولي البسيط نعم، والملكي في آن، لنصبح مسلمين ونحن مسلمون بالفطرة، ونتهجّى أبجدية العربية مع السّوَر القِصار، فهي لغتُنا بغير منازعٍ مما أصبح اليوم محلّ شكٍّ وجدلٍ واستصغار؛ الأداة مع عصا الفقيه والتكرار هي الصّلصال، نكتب اللوحَ ونحفظُه ثم نمحوه ونكتبُ عليه ونمحوه بالصلصال، من غير أن نعيَ بأننا نُخزِّن، وأن هذا المحوَ بهذه الأداة حافظةٌ تقُيم في الصدور تبيّن الحلال والحرام وتقي من الزلل وتقصُّ علينا أحسنَ القصص، وتأمر وتنهى عن المنكر، وتفطّن لحكمةِ الدهر بها تُؤخذ العبر. ما أعظمه هذا الصلصال ذُكر بتبجيل في القرآن:» خَلق الإنسانَ من صلصال كالفخّار وخلق الجانّ من مارجٍ من نار فبأيِّ آلاء ربّكما تكذبان» (الرحمن، 14) والصلصالُ هو الطين، وقيل طينٌ يابسٌ له صلْصلَة، كما قيل طينٌ مُنتَن متغيّر استناداً إلى آية أخرى «من حمأٍ مسنون» (سورة الحجر: 26). لا أذكر كم مرّ بي لوحا وقطعة صلصال، وأذكر خالة لي توحّمت عليه تأكله بلذة بينما ذات يوم تعبتُ من المحو فقادني أبي إلى السكويلة الفرنسية، ومنها مضيت في سبل التعلم وأنا دائما مدينٌ للصلصال أخشعُ للتراب.
بقية ص: 2
مشَينا في المسيرة الخضراء المظفّرة بعشرات الآلاف؛ هذه الصورة البانورامية المدهشة التي أنا في مقدمتها وراسمُها معاً، أشهدُها أمواجاً متدفقةً كاسحةً كما توصف اليوم (تسونامي)، المغاربةُ البسطاءُ من الغالبية الساحقةُ وكذلك جزءٌ من باقي الفئات، لكنهم الفقراء، بوجوههم السُّمر، وأجسامهم الهزيلة، وأياديهم الخشنة، وقبضاتٍ تمسك عادة بالفؤوس والمِعوَلِ لحَفرِ الأرض وجرِّ المحراث لزرع التراب ترفعُ عالياً جزء تبارك بيَدٍ، والراية الحمرا باليُسرى، زاحفةً تلبي نداء تحرير الصحراء ليس في رأس هذه الخلائق الطيّبة حساباتُ وجدلُ السياسيين، الوطنٌ خريطةٌ مرسومةٌ في القلب، تربةُ إذا تطلّب سقياها دمٌ كي لا تموت عطشاً فهي تُفدَى، أي تُقدم لها الأرواحُ فداءً، القرآنُ لسانٌ مبين وشهادةٌ وإيمان، حِفْظُه والحِفاظُ عليه من صلصال، فبأي آلاء ربكما تكذّبان، وكذلك كان، نحن ذهبنا ونستحق هذا الوطن لأننا حقا أبناءُ التراب.
لم يتزحزح إيماني قطّعن هذا الاعتقاد، على الرغم من اختلاط المعلوم بالمطمور، وتولِّي غير ذوي الحقوق مقاليدَ الأمور، وتحوّلِ الأوطان والأشواق إلى أرقامٍ فلكيةٍ في البورصة تدور، وبتنا نرى ماضينا وما آمنّا به مسترخَصاً وشعاراتٍ رَخوٍ تبور، حتى الشعرُ جعلوا منه آفةً كالثور يخور، قيل والله أعلم كان مصاباً بجُذام الإيديولوجيا، أي أن الوطنيةَ وصرخةَ الثوار وحقَّ الإنسان في الحياة ضدّ البغي والاستبداد لم يكن إلا وباءً قيل عاق التعبير عن المشاعر والذات ومثله من افتئات؛ وجاءنا شعرٌ ونثر، بلا طعم ولا رائحة زهرةِ ونفحِ تراب هذا الرُّغاء!
إلا الأسبوع الماضي تزحزحت مِلّتي، أستغفرُ ربي، صرت على قيدِ أنملة، لمّا كفرتُ به هنيهةً، جرحني التراب. كانت هندُ تحبه، تعشَق الدنيا وتعانق الحياة بوًسع الأحضان، قدماها راسختان بقوة فوق الأرض والغدُ غيبٌ هو والجِنان. هي ملءُ إرادةٍ وبهجةٍ وابتسامةٍ تفتح الشهيةَ للعيش ألف عام، آه، لو هذا الحبّ دام، قالت خالي، بعد رمضان سأراك في باريس ونطوف بجنون على ضفاف السين ونلحِس آيس كريم في le Petit Pont قبالة نوتردام. ومثل فراشة اقتربت شديداً من الضوء، ماتت ابنة أختي، ابنتي هند نقوري، وهي في ريعان الشباب، بلا سبب توقف القلب عن الخفقان، وأصبح ما في البال غداً مجرد كان يا ما كان، وشيّعنا جثمانها الطاهر زففناها إلى الجنة بالزغاريد وماءِ الورد ووارْيْناها الثرى. مشيتُ خطواتٍ القبرُ ورائي فسمعت النداء: خالي، صافي امشيتوا وخلّيتوني وحدي.. خالي الكفن يخنقني، تعال أخرجني، جسمي رطب والقبرُ مظلم والتراب يجرَحني… مضت أيامٌ وليال، وستمر أعوامٌ ما حييت، تعلَمُ يا تراب أني أفديك ومثوانا أخيراً فيك، فليتك أخذتني أبداً قبل أن تنزع منّي أجمل ما في حياتي.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 05/04/2023