إدغار موران يقترح برنامجا جديدا لخلاص البشرية

أحمد المديني
دأب المفكر عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران على الالتزام بقضايا الإنسان ورصد المعضلات التي تعيشها البشرية من كل النواحي في مجتمعه وفي أوسع الآفاق، عالجها بثقافة موسوعية ومنهجية عقلانية وروح نضالية ملتزمة، لا تجعل الفكر حِلية ولا تأملا متعاليا، علما بأنه كرس له عمره ووضع فيه مفاهيم وصيغا للتحليل السوسيولوجي وأبعد تعتبر من مفاتيح هذا العلم. اختط موران لنفسه وفي جميع أبحاثه أن يشخِّص الداء، أدواء العصر الحديث، وبحسّه البراغماتي وعمله الميداني، أيضا، يقترح ويسعى لتقديم مناسب الدواء.
في كتابه الأخير» لنستيقظ»(دونويل) وقفنا الأسبوع الماضي على جملة من أفكاره ورصده لتطور الخريطة السياسية الفرنسية والتيارات الإيديولوجية المتصارعة يمينية ويسارية ترسم جميعها خطوطا بيانية متهاوية تُظهر تراجعا بل انهيارا مريعين لثقافة الأنوار والقيم العظمى التي نهضت عليها الثورة الفرنسية وتقوقعاً على هوية وطنياتية شديدة الانغلاق ونفوراً من الآخر يخترق سقف التسامح ويتحول إلى ظاهرة عنصرية شاملة بسبب تراكم أزمات. الحق، أن الأزمة صارت معولمة وتفادحت في فترة الكوفيد 19 التي لم ننفكّ بعد من بين براثينها، ومن الخطأ وصفها بالمادية وحدها وإنما ثمة حاجة للنظر إليها من زاوية أنتربولوجية وبغية الانتقال إلى عهد جديد تستعيد فيه البشرية نفسها وزمامها ولا تنقلب مستعبَدة للآلي كما الآن.
يبدأ هذا مع إ. موران بفهم معنى(أزمة) تفيد حدوث اختلال في نظام واضطراب ضوابطه، والمجتمعات الحديثة لا تسمح بحلول يسيرة لأنها تنتج نقائضها، لذلك الأزمة أعمق، لا سيما ونحن ما فتئنا نبحر في المجهول، ولأن فن الحكم هو» فن كيف تتجه في ظروف غير يقينية أضحت مأساوية». وكما يدعو برونو لاتور المطلوب هو « النزول إلى الأرض» لمعرفة وحدة مصير البشرية وهي عرضة للخطر، والحاجة ملحة لتحويل النوع البشري إلى إنساني. كيف؟ بما أن كل ما يجري في ميادين الاقتصاد والسياسة والممارسة يحدث أساسا في الفكر البشري، فيتوجب عندئذ السيطرة على التقدم المادي الذي كثيرا ما يُخفي الكوارث. وحسب باسكال، لا ينبغي لقوة الإنسان أن تعميه عن عاهاته ولا قوته لتزيح ضعفه، القوة بلا وعي تورث العجز.
من هنا يرى موران ضرورة إصلاح الفكر بتخطي المنطق الأرسطوطاليسي المنبني على تطابقه التام مع الحقيقة، والخاضع لبراديغم ينظر إلى الكون مجزوءات معزولة عن سياقها، وتعويضه بمبادئ تسمح بالكشف وتمييز وجمع المتعارض متكاملا، ويتكفل إصلاح التعليم بتبيان مصادر أخطاء وأوهام المعرفة وربط المعزول باللامعزول، والمستمر بالمنقطع. في الوقت نفسه، دائما حسب موران، لا ينبغي على صعيد الأمة معارضة الكوني بالأوطان بل ربطها في ما بينها عائليا ودينيا وقوميات ودمجها في الكون المحسوس للوطن الأرضي. إنه يؤمن بالتعدد ضمن الوحدة، وأن التاريخ لا يمشي في مسار خطِّي بل بانزياحات تغدو تيارات،هي عقلانية وشيطانية، ماركسية وشكسبيرية. يدعو كذلك إلى الإيمان بأن الحقيقة البشرية ثلاثية، مكونة من الفرد والمجتمع والنوع، وبالتالي القطع مع المفهوم الغيبي الإنجيلي. أن نعي بأن ما هو بشري ثنائي، وأن الكائن غيرُ مستقر ويحيا بالتناقضات، أنه قادر على الخير والشر، مما يعجّل بضرورة فكر إصلاحي للخلاص العام وفتح طريق جديد للبشرية. يفكر الباحث الفرنسي هنا في إنقاذ فرنسا بلده، التي كانت قد بدأت أول خطة إصلاح مع الحكومة الثورية سنة 1793 لمواجهة التحديات التي اعترضت الجمهورية، ويدعو إلى إحياء فكرتها للتصدي لمخاطر تعترض فرنسا وأوروبا والبشرية جمعاء، في مقدمتها سياسة خاصة بالبيئة، تتصل بالطاقة النظيفة والماء الملوّث للأنهار والمحيطات، وسياسة المدينة. ويتطلب العالم القروي وحده خططا كبرى لما يغرقه من زراعات صناعية وكيميائية تعقم الأرض وتحشر الدواب والدواجن في أسوأ حال. هي سياسة ستعيد الحياة للقرى والمنتجعات بمعالمها، وستقلص من تغول الربح لفائدة إعادة توزيع للمداخيل يحقق التقدم الاجتماعي والمتضامن.
إنه برنامج إصلاح شامل هذا الذي يسطره إ. موران مختصراً في الشعار الاستنهاضي الذي يطلقه بنبرة نفير ونذير:»Réveillons-nous !»(لنستيقظ) فمن الطبيعي أن يشمل المؤسسة التربوية بالدعوة إلى إعطاء نفس جديد للاّئكية، إلى تكوين يربي عقل النقد والنقد الذاتي والشك. برنامج يهدف إلى إصلاح الدولة بتشذيب بيروقراطيتها وإزاحة اللوبيات المشوّشة. ومع مفكر إنساني مستنير مثل موران، الجوهري هو تبني سياسة حضارية تبدّد العيوب المتفاقمة للحضارة الحالية، إذ علاوة على ما حمله التغير الحضَري من منافع، فإنه حمل مساوئ شتى قطعت أواصر التضامن، وتغوّل النمو الرأسمالي تسليعا جماعيا، وأكلت الأتمتة والوسائط الإلكترونية علاقات التواصل في الأسواق ومعاملات الحياة اليومية. في المجمل، سياسة الحضارة هدفُها إعادة أنسنة ومؤانسة وجودنا، نحو بلورة استقلال ذاتي، وحس المسؤولية، ونبذ الأنانيات، امتداداً إلى أنسنة الإدارات والتقنيات وتقوية التضامن والعشرة.
يستحضر موران المفكرالإنساني ومتعدد الأبعاد جميع الاحتمالات من تاريخ الإنسانية مع حصيلة تجاربه على جبهات مختلفة، إمكان فتح نافذة الأمل ليطل على المستقبل، هو من يجر خلفه بلا كلل تكاليف مائة حول. ينبهنا أننا رغم عجزنا عن القضاء على الشقاء والموت، بوسعنا أن نتطلع لتحسين حياة الأفراد والعلاقات بين بني الإنسان، وأن نؤمن بقيمة التنوع، وإقامة اتصال دائم بين مثلث الماضي، الحاضر، المستقبل.لا يعبأ بالصِّعاب، مفعما حماسا بالرهان على غير المتوقع، اللحظات التاريخية الحاسمة، القدرات الخلاقة للإنسان من كل الأعراق لرسم خطة إنسانوية جديدة للإنقاذ توقظ الأذهان المستسلمة، وبما يتطلب وضع تصور ورؤية للعالم، وعقيدة وسياسة لا تكتفي بمواجهة قوى الهمجية الكاسحة، وحسب، بل أبعد، باجتراح مشروع لإنقاذ الأرض، الهدف الأمثل والأسمى هو: إعادة إقرار وإحياء الأمل. علينا أن نختار إذن بين الهلاك والانبعاث، ولا سبيل مرة أخرى للخلاص إلا بأن نستيقظ.
الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 16/03/2022