إصلاح التقطيع الانتخابي في المغرب: ورش تأخر كثيرًا ودلالات إحصاء 2024 تفرض قرارات جريئة

محمد السوعلي( *)

 

 

التقطيع الحالي أمام اختلالات صارخة وظلم تمثيلي واضح

جاء فتح ورش مراجعة الخريطة الانتخابية في لحظة سياسية دقيقة، تزامنت مع الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش، الذي أكد فيه جلالة الملك محمد السادس على ضرورة جاهزية المنظومة القانونية المؤطرة للانتخابات قبل نهاية السنة الجارية. وهي دعوة تتجاوز بعدها الإجرائي لتلامس جوهر الإصلاح السياسي، وتعيد الاعتبار لثقة المواطن في المؤسسات وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية.
في هذا السياق، يبرز بوضوح ما كشفت عنه نتائج الإحصاء العام للسكان والسكنى لسنة 2024 من خلل بنيوي في التقطيع الانتخابي المعتمد منذ سنة 2011. فقد تغيرت الخريطة الديموغرافية للمغرب بشكل عميق، بفعل الهجرة الداخلية، والتوسع الحضري غير المتكافئ، والتحولات في حجم الأسر، ما أدى إلى تفاوت صارخ في عدد السكان الممثلين في كل مقعد برلماني، وإلى فجوة غير مبررة في وزن الصوت الانتخابي بين دائرة وأخرى. وإذا كان المعيار التقريبي للعدالة التمثيلية يفرض أن يمثل كل نائب ما يقارب 86 ألف نسمة، فإن هناك دوائر حضرية مثل طنجة-أصيلة والمنارة وسيدي البرنوصي يتجاوز فيها عدد السكان لكل مقعد 170 إلى 200 ألف، مقابل أقل من 35 ألفًا في دوائر صغيرة كفحص-أنجرة، أو أقل من 60 ألفًا في دوائر كالرباط-المحيط وبن مسيك. وهذا التفاوت لا يمكن تبريره بالتمييز الإيجابي الذي خُصص أصلًا للأقاليم النائية أو ذات الامتداد الجغرافي الكبير والكثافة السكانية الضعيفة، بل أصبح يشمل دوائر حضرية كبرى تتشابه من حيث البنية العمرانية والمستوى التنموي.
هذا الوضع لا يمس فقط بمبدأ المساواة بين الناخبين، بل يُضعف أيضًا الثقة في العملية الانتخابية برمتها، ويحدّ من فرص الأحزاب السياسية في التعبير العادل عن قاعدتها الانتخابية. إذ إن الخلل في توزيع المقاعد ينعكس بشكل مباشر على نتائج الاقتراع، وعلى تمثيل القوى السياسية في البرلمان، ويؤثر بالتالي على هندسة الأغلبية والمعارضة، وعلى جودة التشريع والرقابة والمساءلة، ويجعل من إصلاح التقطيع الانتخابي مدخلًا سياسيًا وليس مجرد إجراء إداري.

هيمنة المال والولاءات في الدوائر الصغيرة: وجه آخر للاختلال

ومن المثير للقلق أن ما يقارب 60 في المائة من الدوائر الانتخابية، وفق التقطيع الحالي، لا يتجاوز عدد المقاعد فيها مقعدين أو ثلاثة، وهي الدوائر التي تشكّل في الغالب بؤرًا لتكريس الهيمنة القبلية أو الزبونية الانتخابية، حيث يُعرف الفائزون مسبقًا قبل إجراء الانتخابات، وحيث لا يجد المال الانتخابي الكبير مقاومة تُذكر. هذه الدوائر، بحكم حجمها وخصوصياتها المحلية، تُقصي عمليًا الأحزاب الجادة التي تناضل من أجل شفافية الاقتراع ونزاهته، وتمنح الأفضلية لمرشحين تربطهم شبكات مصالح أو ولاءات محلية، بعيدًا عن منطق البرامج السياسية أو التعاقد الديمقراطي مع الناخبين.
إن واقع هذه الدوائر الصغيرة، ليس فقط أنه يخلّ بالتوازن التمثيلي، بل يُنتج أيضًا مشهدًا انتخابيًا مشوّهًا، يعوق التعددية ويُضعف دور الأحزاب التي ترفض الخضوع لمنطق المال والنفوذ والابتزاز السياسي.
من الناحية العملية، هناك ثلاثة سيناريوهات يمكن النقاش حولها: أولًا، إعادة التقطيع عبر إحداث دوائر جديدة في المدن الكبرى ودمج بعض الدوائر في الجهات ذات التمثيلية المفرطة، مع الحفاظ على سقف المقاعد الحالي. ثانيًا، رفع سقف المقاعد في بعض الدوائر ليصل إلى أكثر من ستة، وهو ما من شأنه أن يقلص الفوارق بين الأصوات ويمنح الفرصة للأحزاب الصغيرة والمتوسطة لتقوية حضورها البرلماني. ثالثًا، اعتماد حل تركيبي يجمع بين إعادة التقطيع ورفع عدد المقاعد، وقد يقتضي ذلك مراجعة شاملة للعدد الإجمالي لمقاعد مجلس النواب كما حصل سنة 2021.
جدير بالذكر أن الممارسة الديمقراطية المقارنة، كما هو الشأن في فرنسا وكندا، تفرض مراجعة الخريطة الانتخابية كل عشر سنوات على الأقل، استنادًا إلى آخر إحصاء سكاني، لضمان ألا يتجاوز الفارق بين عدد الناخبين في الدوائر حدًا معينًا. أما في المغرب، فقد مضت أكثر من 14 سنة دون أي مراجعة شاملة، رغم التحولات الهائلة التي عرفتها التركيبة السكانية. ولا يتعلق الأمر هنا بإحصاءات جافة أو حسابات تقنية، بل بمسألة جوهرية تلامس صدقية التمثيلية، وفعالية السياسات العمومية، ومشروعية المؤسسات المنتخبة.

الاتحاد الاشتراكي يُعِد مذكرة شاملة للإصلاح ويعبّئ قاعدته

ولأن التقطيع الانتخابي لا يمكن فصله عن باقي عناصر المنظومة الانتخابية، فإن الإصلاح المنتظر يجب أن يشمل أيضًا مراجعة نمط الاقتراع، وحد العتبة، والقاسم الانتخابي، وشروط الترشح، وضبط تمويل الحملات، وتحيين الحدود الترابية للدوائر لتفادي تداخل الجماعات والمقاطعات، فضلًا عن تعزيز تمثيلية النساء والشباب والأطر الكفؤة، بما يعطي للعملية الانتخابية مضمونًا ديمقراطيًا حقيقيًا.

وفي هذا الإطار، يستعد حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، عبر لجنة الانتخابات الوطنية، لتقديم مذكرة شاملة إلى وزارة الداخلية قبل متم شهر غشت 2025، تتضمن مقترحات دقيقة وعملية بخصوص هذا الورش. وتُبنى هذه المذكرة على تصور يربط بين العدالة التمثيلية والعدالة المجالية، ويهدف إلى تقليص الفوارق بين عدد السكان في كل دائرة، وإعادة توزيع الدوائر وفق منطق منصف، وتوسيع المشاركة السياسية، وتجديد النخب، وتحقيق فعالية أكبر في العمل التشريعي، مع تعزيز مصداقية العملية الانتخابية لدى المواطنات والمواطنين. كما تؤكد المذكرة المرتقبة على أهمية تقوية الرقابة على تمويل الحملات، وتبسيط المساطر الإدارية، وضمان تكافؤ الفرص بين المرشحين، والحرص على شفافية كل مراحل العملية الانتخابية.
إن إصلاح التقطيع الانتخابي، بما يتضمنه من إعادة التوازن في تمثيل السكان داخل البرلمان، يُعد اليوم أحد أبرز الرهانات المطروحة أمام الفاعلين السياسيين والمؤسسات الدستورية. وهو رهان مزدوج: داخلي يهم العدالة بين المواطنين والجهات، وخارجي يتصل بصورة المغرب كدولة ديمقراطية أمام شركائها الدوليين ومحيطها الإقليمي. ففي زمن الانفتاح العالمي، أصبحت الانتخابات عنصرًا مؤثرًا في تموقع الدول، ومقياسًا لمدى احترامها للمواطنة المتساوية والمشاركة السياسية النزيهة. وأي تردد في هذا الورش سيؤدي إلى استمرار نفس الاختلالات، وتكريس العزوف السياسي، وإضعاف مصداقية المؤسسات، فيما يشكل التفاعل الإيجابي مع معطيات الواقع خطوة أساسية نحو بناء ديمقراطية فعلية تنسجم مع انتظارات المغاربة وتطلعاتهم.
وإذا كان الإصلاح السياسي مسؤولية جماعية، فإن لحظة مراجعة التقطيع الانتخابي تشكل فرصة تاريخية يجب ألا تضيع. إنها لحظة الحقيقة، التي تفرض على كل القوى الوطنية الجادة أن تتحمل مسؤوليتها كاملة في حماية المسار الديمقراطي من التمييع والتزييف.
أوجّه دعوة صادقة لكل الاتحاديات والاتحاديين، في مختلف الجهات والأقاليم، إلى الانخراط الواعي واليقظ في هذا الورش الحاسم، عبر تأطير النقاش العمومي، وتقديم المقترحات البناءة، والدفاع عن تمثيلية حقيقية تُعيد الاعتبار للإرادة الشعبية. كما أوجّه نداءً إلى المواطنات والمواطنين من مختلف المشارب، بأن لا يستسلموا لليأس أو للواقع المفروض، بل أن يجعلوا من أصواتهم أداة لتغيير فعلي، ومن المشاركة السياسية فعلًا نضاليًا من أجل مغرب أكثر عدالة ومساواة.
إننا أمام مفترق طرق، فإما أن نستمر في إنتاج نفس الأعطاب البنيوية، أو أن نؤسس لمرحلة جديدة تُصان فيها إرادة الناخب، ويُحترم فيها صوت المواطن، وتُعطى فيها السياسة معناها النبيل الحقيقي. والاتحاد الاشتراكي، كما كان دائمًا، مستعد لتحمل مسؤوليته في هذا الورش، بعزم وقوة، من موقعه كقوة وطنية تقدمية، مؤمنة بالإصلاح، ومنخرطة في معركة بناء ديمقراطية جديرة بالمغرب والمغاربة.
لنجعل من إصلاح التقطيع الانتخابي محطة لتجديد الثقة، وبداية لانتقال سياسي فعلي يعيد للمواطن مكانته، وللأحزاب رسالتها، وللديمقراطية صدقيتها.

( *)الكاتب الإقليمي لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بتطوان

الكاتب : محمد السوعلي( *) - بتاريخ : 16/08/2025