إلى متى نبقى شعوبا يُصنع التاريخ خارج إرادتنا؟

أحمد المديني

مذ بدأت رحى الحرب تدور في أوكرانيا ومعها الموت والدمار وتشرّد عشرات الآلاف، وأنا مُنزوٍ داخل رأسي، لا أقول كأن الأمر لا يعنيني وليس عندي وجهة نظر، ولكن في وضع المصاب بغيبوبة وهو مفتح العينين ينظر إلى الشاشة ويتنقل بين القنوات ويصل إلى سمعه لغط كثير: قصفٌ وخبطٌ وضربٌ وقدحٌ وشتائمُ وأفواهٌ تمضغ الكلام الصحيحَ والكاذب، وتُلفّقُ أكثرَ مما تُحقق، وتُبادر إلى مزيد إزهاق للأرواح، وتجعل من الموت عملة رخيصة في مزاد تنهيه بكأس راح، ها، ها، الغرب، ها، ها، المجتمع الدولي، ها، ها المبادئ الدولية وحقوق الإنسان، عن هذا العالم وحده، كأن لم تقع من قبل حرب، ولم يَهلك بشر، ولا نحن نكاد نصدق السِّلم، فهو ضجيجٌ هائلٌ هنا من أجل هذا، وصمتٌ فتّاكٌ تجاه ذاك، وأُوشِك أن أقذف الشاشة بما في يدي، لكن قوة خفية تشلّها، بتنا مشلولين نحن الذين صرنا لا ننتمي إلى أيّ عالم، ومسجونين، أحيانا بخيارنا، ما عدنا في حاجة لمن يُكبّلنا قد ألِفنا القيدَ والصمتُ أضحى ديدنَنا، حتى نُخَبُنا شُمِّعت أفواهُها، وهل ينطق من في فمه ماء، لا يفك عقدة لساني أخيرا إلا باسكال، يمدّ لي حبل الكلام بحكمته العالية الملغزة:» إن الصمت اللاّنهائي لهذه الآماد يُرعبني!».
مهانون ومُذلّون، نحن، قَبْساً من عنوان رواية دستويفسكي الشهيرة من غير أن نملك خلاصنا في يدنا كما تفاءل إيفان بتروفيش، لذلك نلوذ بالمقارنة، ونلعق رُغاء قيم بالية من قبيل أنه لا يصحّ الكيل بمكيالين، لم نستوعب درسَ الاستعمار، ولو تحدث أحد،أو كتب في مقال عبارة (الاستعمار الجديد) أو(الأمبريالية) فستجلجل قهقهةٌ تدور به كالزوبعة ويقال إنه جدير بالعزل لمرض عقلي لعمري ملاذ أفضل من عقلانية تعتبر القتل والتدمير شأنا يَخُصُّ بشرا دون بشر وأمرا نسبيا؛ ملاذا حين ترى الثقافات والإيديولوجيات الليبرالية العلمانية الديموقراطية تسوّغ العنصرية وتصمت متواطئة لا بل تجهر بأن حقوق الشعوب يمكن أن لا تكون متساوية، وهي تعود إلى عقيدتها الأولى والحنين إلى تراثها المجيد العريق، لا تحفل بنا نحن الذين صدقنا، وصفّقنا، وروّجنا بضاعات مغشوشة، كنا ائتُمِنّا على رسالة فنسيناها أو قايضناها بثمن بخس، ولن أقول أنا، لا مخافة أن أُنعت بالنرجسية، فأنا فعلا نرجسي لأني أنظر إلى وجهي وخرفي وخسارات أمتي وأوهام جيلي» وحنيني لك يكوي أضلعي والثواني»هذا كله في نصي، ولا حنجرة لي للغناء، لذلك أيها السادة، أستعير صوت محمود درويش أستأذنه بعد عشر سنوات على رحيله وأقطف باقة من شعره في زمن أصبح فيه الشعر منديلا يمسح به فتية نزقون أصابع مبتورة وهم يقيقون خلف الميكرفون؛ فأردد:» من أنا لأقول لكم/ ما أقول لكم/ كان يمكن أن لا أكون أنا من أنا/ كان يمكن أن لا أكون هنا/(…) عشر دقائق تكفي لأحب مصادفة/ وأخيّب ظن العدم/ من أنا لأخيّب ظن العدم؟/ من أنا؟/ من أنا؟». كنا، إذن، آمنا، وائتُمنا، واللهِ وفَيْنا، وكذلك خُنّا، كثيرٌ من ألسنتنا مُعارة، ووجوهنا يافطة، ورسالتنا لأمس مُعيّرة، من نحن اليوم لنقول نحن ونستغرب أن الغرب يكيل بأيّ مكيال،»من ذا يطالب سيدا في عبده؟!».
لم أعد أطالب بشيء. لم أعد أحزَن ولا أفرَح. تلك عادات قديمة ترجع إلى الإنسان الأول، يوم كان الناس يعيشون ويموتون ولا يبالون، كأن صلاح عبد الصبور من أجلهم نظم قصيدته»الناس في بلادي»، هم» (…) جارحون كالصقور/ غناؤهم كرجفة الشتاء في ذؤابة المطر/ وضحكهم يَئِزّ كاللهب في الحطب/ خُطاهم تريد أن تسوخ في التراب/ ويقتلون، يسرقون، يشربون، يَجشَأون/ لكنهم بشر/ وطيّبون حين يملكون قبضتَيْ نقود/ ومؤمنون بالقدر». لكنهم حين مات « عمي مصطفى» وهو يموت كذلك عندنا كل يوم، « ووسّدوه في التراب/ وسار خلف نعشه القديم/ من يملكون مثله جلباب كتّان قديم» كان بينهم حفيدُه، كم بيننا من الأولاد والأحفاد رماهم البحر بعد أن عافتهم البلاد، لهم « قبور في الماء» حفرها زفزاف في أبلغ رواية، وإذ دفنونهم» لم يذكروا الإله أو عزرائيل أو حروف(كان)/ فالعام عام جوع».
وبعد هذا يخاطبني ذاك الصديق من بعيد بسؤال إنكاري:» لماذا تغضب؟!» ولا يرى أن ثمالة الحزن في الكأس لا تنضَب، كان أحرى به لو سأل مثل ذي الرُّمّة» ما بالُ عينِك منها الماءُ يَنسكِب/ كأنها من كُلى مَفْريةٍ سَرِبُ»ولكنه طول الغياب، وكم من جواب يا صاح يَحجُبه السحاب، لا أفتأ أرسلُه في السر والعلن، جهيراً ومبحوحاً، قد ثُقب الجسد قُروحا، وسمعت من يلوم لا تكن لَحوحاً، لستَ وحدك مجروحا، كُن مثل الناس في البلاد تؤمن بالقدر مات حيا أو عاش مذبوحاً. لا تفكر في المعضلة، إنس شكسبير، يريدونك أن لا تكون، هذه هي المسألة.
يخاطبني أيضا صديق عربي شريف القدر والخلق، وقد انزوى في ركن من ذاته كأنه آخر الخلق، يعاتبني حين أشير إلى تردي الأحوال، أقول يا صاح هل كنا نقدر حصول هذه الأهوال، وأن ترى هِمم الرجال سفلت والمجد اليوم للأنذال، أكنت تقدِر أن لا تميز اليمين من اليسار ولا وجهة الجنوب من الشمال؛ أكنت تقبل أن يصبح المناضل والمثقف والكاتب والجامعي يحمل وجهه على كفه ويطوف بها في العواصم والمجالس والمهاتك لا يخجل من ذل السؤال؟!الآن، فات أوان هذا الكلام، كنا نغضب حين نضام، أما اليوم فنحن تحت الحطام. جميع الأمم لها صوت، رأي، موقف من التاريخ، الغرب كيان واحد يقول، ما هم بحق أو باطل، نحن أمس واليوم هنا، فإلى متى نبقى يصنع التاريخ خارج إرادتنا، أم شعوبا رعوية مرعية وكفى؟!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 23/03/2022