الإسلام السياسي ؟ ديكتاتورية «الفكرة»
عبد السلام المساوي
إشكالية الإسلام السياسي أنه وصل السلطة في زمن الشعوب، وليس في زمن الانقلابات، الأمر الذي حد من بسطه لسلطته التي يتمناها، والتي كان يراهن على أنه فيما لو بسطها فعلا، فلن يتمكن أحد من نزعه منها.
تتعارض فكرة الإسلام السياسي مع الديموقراطية، ولا يمكن لأحد أبدا أن يرى بعكس ذلك، فالمجتمع الإسلامي الذي يخطط له الإسلام السياسي، لا يؤمن أبدا بالتعددية، ولا يؤمن بالرأي الآخر، تؤكد على ذلك تشريعات كثيرة، تضعه والتنظيمات والجمعيات التي تنظر له أمام حرج كبير، فمن الحرية الفردية إلى حرية الاعتقاد، إلى مبدأ تداول السلطة، كل ذلك لا يمكن أن يقول أحد بقبول ” الإسلام السياسي ” له، لأنه لو قال بذلك فهو تلقائيا يخرج من الفهم الذي يولده وهو ” الولاية الإسلامية ” و ” إقامة الشرع والشريعة ” ، الذي يرى بأنه هو الصواب الوحيد ، بل وفكرة قيام المشروع نفسه مبنية على هذا، ومبنية على ولايتها المطلقة على الناس .
كل هذا كان يمكن أن يتمكن للجماعات والتنظيمات الإسلامية لو أنها قامت في فترة غير الفترة التي قامت فيها الشعوب للمطالبة بالحرية والعدالة والكرامة، لذلك فلم يكن لهذه الشعوب في هذه الفترة الصبر على فكر يؤمن بأنه صاحب الحق المطلق، وأنه من أجل تطبيق هذا الحق المطلق لا بد من التمهيد لذلك عبر إجراء تغيير تام في بنية النظام الذي جاء به ليتناسب مع هذه الفكرة …هذا ما حدث في الثورة الإيرانية التي وضع فيها الفقهاء نظاما بالغ الدقة والتعقيد، يوحي بديموقراطية، ولكنها أشد ديكتاتورية من أعتى الديكتاتوريات، أي ديكتاتورية ” الفكرة ”، وهذا ما كانت مقبلة عليه مصر لولا ثورة 30 يوليوز 2013، حيث سئل مرشد الإخوان المسلمين السابق مهدي عاكف في إحدى المقابلات إن كان مشروعهم قد استتب، فقال إن المشروع الإخواني لا يستتب سوى بأخونة الدولة، أي أن المشروع لا يمكن أن ينجز سوى بتغيير القوانين لتتناسب وفكرة ” الولاية ” .
الديموقراطية في نظر الإسلام السياسي قائمة فقط على فكرة عدد أنصاره في الشارع، فإن كان أغلبية صارت الصندوق، وإن لم يكن صارت ” الشرعية ”، وان كانت أقلية صارت ” الشرع ” أو ” الشريعة ” …ومثل هذا الفكر الهلامي لا يمكن أن يقبض عليه شيء، لأنه لا يقول سوى ما يحدد مصلحته . إذ لحد الآن لم يحدد الإسلام السياسي فهما واضحا للديموقراطية بما يتناسب ” و الشريعة ” التي يتبناها، ولا بد لدى دخول هذا التيار في الحراك السياسي أن يقبل بالمفهوم الواضح للديموقراطية، ليس بما هو صندوق الانتخاب فقط، بل بما هو أيضا حقوق الأقليات في دولة مواطنة عادلة، تكفل لهم أن ينظر لهم القانون على أساس أنهم مواطنون، لا رعايا أو ” أهل ذمة ” .
إن فشل الإسلام السياسي إبان الربيع العربي، يأتي بسبب ما يقوم عليه، فالشرع الذي تقوم عليه فكرة الإسلام السياسي، يوجب عليهم أن يمكنوا لدولتهم قبل التمكين للمواطن فرص العيش، فانشغل الإسلاميون بأسلمة دولهم ، قبل توفير الفرص الكريمة للمواطنين للعيش ….انشغلوا من جانب لإدخال كوادرهم في الوظائف العامة، ومن جانب آخر بإعداد قوانين ومواد دستورية يرونها ممكنة لهم ولشرعهم، قبل أن ينشغلوا بالإنسان ….الأولويات التي رأوها والتي أوجبها عليهم الشرع الذي يعتقدونه، هي التي قضت عليهم.
اللصوصية والانتهازية بدت واضحة في سلوك الإسلاميين منذ البدايات المبكرة . وحين وجدت الشعوب نفسها بين مطرقة الإسلاميين وسندان الديكتاتوريات، تمسكت بحلم دس في عسله سم الحرص على الوصول إلى السلطة، وحين تسنموا سدة الحكم، ويا الغرابة ويا للفاجعة، استخدموا نفس أساليب الديكتاتوريات من إقصاء وتهميش ، لكن بخبث يرتدي لبوس الدين / الزاد المخدر للبسطاء المنتظرين ربا يعدل في معاملتهم …وكانت وقاحتهم غير مسبوقة في ذلك . إذ لم يكد حبر كلمات شعاراتهم وخطاباتهم يجف حتى انقلبوا على كل شيء وتحولوا من قيمين على مصير شعب وأمة إلى مجموعة أو جماعة تقيس الناس بطول لحاهم وسبحاتهم، وتصدر ” فرمانات” التحريم والتحليل ناسفة عقودا من حياة تبدو قمة في المدنية والعلمانية والتواشج الاجتماعي قياسا بما سعوا إليه ونشره بين الناس .
نعم لم ولن يكون منطقيا الحديث عن ديموقراطية إسلامية، فعلى الرغم من أن جوهر وروح الأديان كلها واحدة، إلا أن رجالاتها وأوصياء الله على الأرض ( كما يدعون ) لا يعترفون بآخر أبدا .
دولة الخلافة التي ينادون بها كانت لزمن وأقوام وثقافة واقتصاد درست مظاهرها وانتهت صلاحية موجبات قيامها، الدين جوهر ثابت بالمطلق، والحياة كرة تدور وتدور، فتتبدل أقوام ومعطيات وعلوم واكتشافات علمية …من الحمق تطبيق قواعد الماضي الثابت المنقضي على مستقبل متحرك ديناميكي حي .
أعتقد أن وصول الإسلاميين إلى مبتغاهم كان مرحلة ضرورية، لنكتشف ضحالة مشروعهم، هذا إن جاز لنا تسميته بالمشروع . ففيما خلا كرسي السلطة، لم يتمكنوا حتى الآن من تقديم مشروع واضح ومتكامل لدولة يؤسسونها، ولم نر برامج أو خططا لحل مشكلات معقدة تعاني منها معظم الشعوب العربية من فقر وبطالة وأمية واحترام الفرد واحترام الفرص على أساس الكفاءة لا الولاءات .
لا ديموقراطية على الأرض …فثمة ديموقراطية الأكثرية التي تجعل من الشعب أكثرية وأقلية …هناك لعبة ديموقراطية عبر صناديق الاقتراع …ما نحلم به اكبر وأنبل من لعبة الصناديق وكواليس السياسة …نطمح إلى دولة مدنية يتمتع فيها الجميع بحقوق المواطنة وواجباتها في ظل قانون لا احد يقف فوق سطحه ، يكون رجال الدين فيها داخل معابدهم فقط .
أنا ممن يؤمنون بفساد الرؤية العامة للإسلاميين، واراها تتحمل عبء إخفاقهم وفشلهم …ولا أرى الإخفاقات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي سجلت بحق تجربتهم إلا انعكاسا لفساد هذه الرؤية …أو لنقل إنه الدم الفاسد الذي بثوه في برامجهم فسرى بأوصال المجتمع المؤسسية حتى أصابها بالمرض..لأن رؤية، كرؤية الإسلاميين إلى مفاهيم القرن السابع أو العاشر الميلادي، حتما ستفقد حياتها وحيويتها بفعل الزمن وعوامله المؤكدسة، فالمفاهيم التي تسكن العقل تكبر والهرم وتشيخ وتموت، وإن لم تكرم بدفنها تعرض العقل للخرف، حالها كحال خلايا الجسد حين يعتريها النضوب ويئين الموت لا تعود قادرة على بث الحياة والحركة في الأوصال . وعوضا عن إكرام هذا الخرف وفصله عن الممارسة السياسية، أصر الإسلاميون على الإبقاء عليه، وتراءى لهم أن بث بعض مفاهيم الحداثة في خطابهم السلفي الماضوي من نوع المدنية، الديموقراطية، الشرعية الدستورية، سينجي حكمهم …ولكنهم لا يعرفون أن رش أفخر العطور الباريسية لا يستطيع أن يمنع هبوب الرائحة الكريهة من الميت….
تناقضات الخطاب الإسلامي هي التي هزت كرسي الإسلاميين، فهو تارة خطاب فيزيقي يمارس السياسة في دور الرئاسة وتل أبيب، ويدير تحالفاتها وصراعاتها الشرسة المنفلتة من عقال الأخلاق، ويخضع لقوانين التغير ويأتمر بالنسبية…وتارة أخرى هو ميتافزيقي يحلق في عالم المثل ويأخذ مريديه إلى جنات السموات، يمارس الخطابة في المساجد والشوارع، ويخضع المطلق والثابت والله لبرنامجه المعروض سياسيا …هو خطاب مرسي للمسلمين قبل الحكم، عن اليهودي بأنه حفيد القردة والخنازير …وهو خطاب مرسي ذاته عن إسرائيل ، ولكن بعد أن صرح مرسي السياسي بأن إسرائيل الجارة صديقة ولنا فيها صديق عزيز هو بيريز…
هو خطاب بنكيران، خطاب العدالة والتنمية قبل الحكم …يحضرنا اليوم، ذاك اليوم الذي انتفض فيه عبد الإله بنكيران في وجه مصورة تلفزيونية مطالبا إياها بمغادرة مجلس النواب لأن لباسها غير محتشم .
لذلك لا يستقيم أن نقف مع الذين يتباكون على الازدواجية الحداثية في الموقف من الحريات الفردية .
والحرية الفردية قناعة ومكابدة، وهي خط متواصل في التفكير وليست سوقا انتقائية نختار منها ما يلائمنا وقت الشدة فقط، في هذه الحالة تصبح الحرية استنجادا بالعدل القيمي لتبرير انتهازية إيديولوجية مفضوحة .
لماذا فشل الإسلاميون في الحكم ؟ ولماذا ينجحون ؟ العالم تغير، والعالم العربي الإسلامي تغير كذلك . والتغير التاريخي، لا يشكل في حد ذاته، حجة على ضرورة فشلهم، لكنه عامل أساسي . ” وضع الإنسانية ” التاريخي الحالي، لم يعد مهيئا لقبول خضوع مطلق ” لرقابة إيديولوجية ” ، حتى ولو كانت ” دينية ” ، والإسلاميون لا يقترحون، على المستوى السياسي والاجتماعي، شيئا آخر، الحرية لا تختزل بحرية الصلاة والصوم، والتجارة، حرية الشعوب اليوم عديدة ومتحركة . وهم لا يعرضون أمام الشعوب إلا حريات ساكنة وبائتة . إنها نوع من النكوص المطلق الذي لا يفي بحاجة أحد من المواطنين . ” الحريات الحديثة ” ، ويجب أن نصر على هذا التمييز، لا تشبه في شيء الحريات الإنسانية العتيقة، التي تدافع عنها حركات الإسلاميين السياسية . اليوم، تحتاج الشعوب إلى حرية المعتقد، وحرية السفر، وحرية التعبير، وحرية التغيير، وحرية تشكيل الأحزاب والنقابات والجمعيات والنوادي . إنها ” الشعوب ” بحاجة إلى حرية الفكر، وحرية الجسد، حرية المكان وحرية الزمان . والإسلاميون لا يعترفون بشيء من هذا، وان فعلوا، فلا ضامن لمستقبل، ولا نعرف ما هي حدودهم الحقيقية للحرية .
لنتعبد…ولنترك الآخرين يعيشون بحرية . والعدل أساس الملك . ولا عدل في المطلق . وبخاصة في المطلق الديني المحدد الوجهة والصفة مسبقا.
الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 09/12/2024