الإنذار الأخير.. قبل «برشيد»!

أحمد المديني

 

كتبت قبل أيام بحسرة عبارة:» كان زمناً آخر»، وانتابني اليوم ما يشبه الندم، لسببين: كي لا يظن من يقرؤني أني بَلِيت، تعلقي كلّه انكفأ إلى جاذبية الماضي، وعمِيتُ عن الحاضر، هكذا بِتّ فائضاً عن الحاجة منتهي الصلاحية كأي علبة طماطم محفوظة. الذين من جيلي، أو يكتبون عبارةً مماثلةً، يسهُل نعتهُم من لدن الشباب والمتعجلين بأنهم أفرادٌ غارقون في الحنين، رومانسيون يقتاتون بالنوستالجيا عندهم قارب نجاة والمدّ يدفعهم بلا رحمة نحو هاوية الضفة الأخرى. ما من شك أننا جيلان مختلفان، ولسنا على وئام في كثير أمور، وهي سُنّة الحياة، من جوهرها أن نتشبث بها إلى آخر رمق لا نعرفه متى. وفي مرحلة من العمر، إن حصل النضج، وحكمة الأيام، تصبح هي جَماع كل الأزمنة، أمس، اليوم وغداً، فاكهة ناضجة لبستان الدهر تتذوقها، هي للفصول كلِّها ونما غرسُها في تربة جسدك. وإذن، الحنين ليس عندئذ ابتئاسًا ولا تأسِّيا على ما فات، هو إيقاع حياة. وما هو متاحٌ بسهولة، لأنه أفخمُ وأنضجُ وآخرُ القِطاف، الثُّمالة التي لا يعرف قدرها إلا المعتّقون الأصلاء، إن لم يشربوها فكأنهم ما ذاقوا طعما، وهات يا حسرات. النوستالجيا يا سادة تُستحق، هي مِراس، قد لا تخلو من حزن واكتئاب، بودلير أعطاها بعض أجمل شعره في( Le Spleen de Paris)، ولا أظن كاتبا وشاعرا يقرب من الكلمات إن لم يكن في نفسه بعض أسى وشجن وذوب حنين. لمن؟ لأيّ شيء؟ أغلب الظن لا يعلم، وإن عدم، يتخيل، يبني الأوهام ويرحل إلى حزن الجميل ليرسم بلهب القلب ومن خزان الذاكرة جمال الحزن، واهماً فقط، فهو لا يُطال!
وأنا في مشيي الصباحي هذا اليوم بمتنزه حيّي، غفلت عن الأشجار السامقة تعرَى من آخر أوراقها ما زال يُهدهِدها خريف عنيد. غربانٌ كانت قد اختفت في أجماتها اتّقاء البرد، عادت سريعاً أغراها دفءٌ طارئ، فتجمعت تتنابز عابثة بالنعيق له ضجة لم أحفل بها ومضيت. أنت إن كنت مشّاءً حقيقياً لا هاوياً فخطوك وحدَه ما يعنيك والباقي مصاحبة لا غير. حين تُنهي مشيَك المبرمج تحس أنك تستحق يومك، وربما ستبدأ حياة جديدة تأْمَلُها ستطول. هذا إحساسي ووهمي دائما، وبينما عائداً إلى بيتي ممتلئا بهذه الغبطة لمحتهما جالسين على إحدى أرائك المتنزه، هي العاشرة صباحا في ساعة برج L’EcoleMilitaire. ارتبكت، وإلا لِم استوقفاني. جالسان تحت شمس سخت أشعةً باكرةً وضياءً، خلافاً للفصل. غَبطتُهما، لا أخفيكم، كأن هذه الشمس أشرقت ببلاغة من أجلهما. صرت أفتعل حركات رياضية أبرّر بها بقائي في المدى القصير، بيننا. أراهما بوضوح أكبر. شاب وشابة يجلسان متجاورين. لا، لم يكونا متلاصقين. كانا متكئين بتراخ على ظهر الأريكة الخشبية الطويلة وأرجلُهما ممدودة. ليسا من النوع الغرامي الذي يلتصق بعضُه بالقبل كالسردين في العلب. جالسان صامتان. ينظران أمامها فقط. يقيناً لم أوجد في مجال نظرتهما، أنا وحدي الذي كنت أهجم على خُلوتهما. لو أقبل رودان من متحفه غير البعيد في rue de Varenne لما نحَت مثلهما. فجأةً وصل للتو وشرع في النحت. كنت جالساً أنا وحبيبتي على أريكة في الدار البيضاء ذات زمان بعيد!
بقية ص: 2

قصدت اليوم السبت المتنزه وقمت بالعمليات المعتادة عندي كل صبيحة، وهي من تكرارها تحدُث وحدها لدرجة أني لا أتحكم فيها وأراها كما لو أن شخصا آخر يؤدّيها إلى نهاية الشوط. أرى جسمي ينهض من الفراش، وبعد اغتسال أوَّلي يدخل في اللباس الرياضي ويتجه إلى شغله، هذا دأبه لا يستشيرني فيه حتى ولو كنت بلا طاقة. في الشارع يسبق خطوتي، بينما أرغب أول النهار في النظر إلى السماء، زرقاء أم رمادية، والرصيف نظيف بغسيل عمال البلدية فجراً أم على حاله من أمس، وخصوصا إلى الوجوه أغلبُها صباحا وهي شقراء تبدو زرقاءَ بجباه مغضّنة، ولو لم تكن مغطاة بالقناع الإجباري الواقي من الوباء لبدت مقطَّبة، وأفترض أن لون هذه الوجوه وملامحَها خارجٌ عن إرادة حامليها الذاهبين إلى العمل كما لو إلى حبل المشنقة، ما إن أصل إلى المتنزه أراه ابتعد يهرول. تركته لشغله وتوقفت أعبّ الهواء من الهواء بكفّي وأنظر حولي مستغرباً من أفراد نبتوا من عشب الحديقة للتو وحاصروني بعيونهم، تلمّستُني وفحصت هندامي لَم أُمسخ قردا بعد ولا أنا بهلوان، وهم لا يضحكون، بل يتمايلون بنظرات قلقة وكأني سأثب نمرا وأفتك بواحدٍ منهم، لولا واحد سمعته ينطق بلسانٍ عيٍّ من الخوفMonsieur vous avez perdu votre ombre en cette belle matinée, vite rattrapez-lacar elleest partie sans masque !، وانفضّ جمعُهم بقيت وحدي لا أعلم هل جاء الكلام منهم أم خرج مني، كم تكاثر هذا في زمن الوباء إلى حد أن مصحات الأمراض العصبية فاقت اكتظاظ مصالح العناية المركزة. وأنا ألوي نحو بيتي همّ بي صوت بلا صاحبه، هيّا افلِت بجلدك، إذا أمسكوا به ستدفع الغرامة، الأفدح،ستؤخذ إلى العزل كي لا تنتشر العدوى، أمثالك اليوم زادوا، يغادرون بيوتهم ولا يعودون، لماذا؟ يذهبون للبحث عن الآخرين الذين كانوا، فيتيهون في الشوارع والمدن البعيدة، ويوقفون المارة فينزعون أقنعتهم ليتأكدوا أنهم ليسوا هم، وقد حدثت بسبب ذلك اشتباكات، والسلطات لم تعد تتحمل، بين مرضى الكوفيد، والاحتياط من الإرهاب، وتشمّم الإسلام في الهواء،، وفكّ خيام المهاجرين السريين،، والبحث عن شخص يدعى أحمد المديني يمشي بيننا بجنون نقَله من مسقط رأسه برشيد، آخر ما حلّ به من هلوسات أنه يحرِّض السكان على الحنين الذي نسميه بالفرنسية la nostalgie فيدعو بعضهم إلى نزع الأقنعة والكشف عن حقيقتهم، وبعضهم إلى الرجوع إلى الماضي، يسمّيه المجيد، أفضل من الحاضر المقيت، والعشاق القدامى إلى صدور الحبيبات، والإنسان إلى الغابة، والدار البيضاء إلى سنوات الجمر، وأحمد المجاطي إلى زمن الفروسية،، تركته يسرد ويتوعد خفت على حالي من مستشفى St Anneالذي.. فطفقت أنسحب بخفوووت، وإذ بقبضة فولاذية تمسك بي من الوراء: إلى أين؟! إلى بيتي سي.. لا مانع، إنما خذ معك هذا، وسحب من ورائه الشخص الذي ذهب للهرولة مكاني من البداية،، فأنكرته من هذا؟ هذا أنت، خذه وإلا، نعم صرخت (أنا آخر) كما تعلمت من رامبو، لكن ليس هذا، لا يهم منه، من نيتشه أو يورسنار On s’en fou، هذه آخر مرة تحرِّض على الفصام والحنين،، أو تعود إلى برشيد القديمة، لتُنفى في حنينك، لا برشيد اليوم حاضرة المغرب الكبرى، أم لعلك تفضل أن نأخذك إلى سانت آن؟!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 02/12/2020

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *