الاستقلالات الوطنية الإفريقية ومشروع التنمية

بديعة الراضي

بدايةً، يتعذر الحديث عن الأوضاع الجيوـ سياسية والاقتصادية والثقافية في صورة هياكلها بدون استحضار الانتقالات التي عرفتها القارة الإفريقية منذ حقبة الاستعمار، والنظر في نوعية هذه الانتقالات وعمقها وتعيين طبيعتها وحقيقتها، وكذلك تحديد مفهوم الاستعمار في أشكاله المتعددة، من عسكري إلى اقتصاد فاستعمار ثقافي.
لهذا، فإن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالاستقلالات الوطنية الإفريقية هي المفتاح لتوضيح الوضع الجيوـ اقتصادي والسياسي والثقافي، يرتبط به الوضع الحقوقي، المتعلق أولا بالعلاقات الدولية مع الدول الإفريقية، ثم العلاقة داخل هذه الدول نفسها بين الأفراد والمؤسسات والسلط.
ثمة أيضًا قضية حقوق الإنسان داخل الدول الإفريقية التي لا يمكن أن يكمُل فيها مشروعُ بناءِ مؤسساتٍ سليمةٍ وفاعلةٍ وآمنة ومستقرة، بدون تحقيق ذلك في المجال الإفريقي من جهة علاقة الشمال بالجنوب، وفي خط إكمال مسار التحولات الديموقراطية الحرة داخل الأوطان. مع الإقرار بأن هناك تفاوتات في هذا الرّهان، بين شمال إفريقيا وغربها ووسطها وجنوبها وشرقها.
سبق وأن تحدث كثير من الخبراء من النخب السياسية والاقتصادية والفكرية والثقافية الإفريقية عن الاستعمارات الجديدة، وأنتجوا تصوراتٍ وعبروا عن تطلعاتٍ عن بناء إفريقيا الغد، لتجاوز مرحلة ما بعد الخمسينيات، والتي منحت نوعًا من الاستقلال بنيّةٍ خَفِيّةٍ هدفُها جعلُ الدولة محرَّرةً لكن بتبعية عسكرية واقتصادية وثقافية، ومنحُها تمظهرًا سياسيًا يستعير في قشوره لغة الديمقراطية وحقوق الإنسان، وله دساتيره الوطنية ونُخبه السياسية التي تتبارى على مقاعدَ وطنيةٍ وجهوية، بمنظومة عالمية في حماية الدول من أنظمتها الوطنية، وخلق هيئات تُموَّل من خارج هذه الأوطان للدفاع محلّيًا عن هذه الرؤية، ولكن هذا الخطاب اقترن بتغييب ومحاربة النُّخب السياسية والثقافية والفكرية التي تنطلق من جوهر الإشكال المتعلق بالاستقلالات الوطنية وحماية الدول الجنوبية من هيمنة الدول الاستعمارية الشمالية التي أسست اقتصادًا قويًا وفاعلاً يعتمد مواردَ قارتِنا وخيراتِها وأطرِها ومواردِها الطبيعية والبشرية، مع العمل على إدامة إخفاقاتها ومواصلة عرقلة دعم  بناء الدولة الوطنية.
من هذه المنطلقات نعتبر أن دراسة الوضع الإفريقي وتحولاته الجيو سياسية والاقتصادية والثقافية، تخضع منهجيًا لنوع مسلسل العلاقة مع الآخر الغربي، المستعمر السابق، وبمنظور التغييرات بناءً على معطيات دقيقة ومادية اقتصاديًا وعسكريًا وأمنيًا وثقافيًا. ومن شأن هذه الدراسة إتاحةُ إمكانية بناء خرائط تصحيح المسار خارجيًا وداخليًا، بتحديد مصالح الدول والشعوب، كذلك تحديد طبيعة العلاقات الدولية مع القارة السمراء، وأشكال النظام الدولي في العلاقات الدولية.
إن النُّخب السياسية الإفريقية لَتعي جيدًا الاكراهات الداخلية كافّة، في أشكالها الانتقالية والقضايا المطروحة في هذه الانتقالات التي تخضع لثقلين داخلي وخارجي، وهو الوعي الذي لا يُغيِّب مسؤولية هذه النّخب في معالجة قضايا القارة وحاجاتها المجتمعية، ومن هذه النُّخب من رفضت الوضع وثارت ضدّه من موقع المسؤولية في تدبير الدولة، والمجتمع. ومن هذه النّخب كذلك من أرغمتها شعوبُها على الهجرة، لكي تجد نفسها بين مطرقة الخارج وسِندان شعوب توّاقة إلى التحرر من ألا تكافؤ بين إنسان وإنسان.
أمام هذه المعطيات نستحضر سؤال دور النخب الثقافية ، انطلاقًا من قناعتنا أن الثقافة هي الجسرُ الصّلب نحو بناءٍ مؤسّساتي، تحتاج فيه إفريقيا إلى إعادة النظر في طرق بناء الدولة المؤسساتية القوية والمجتمع القوي بتعدديته العقائدية السياسية والإثنية، وتصحيح العلاقة بين الدولة والمجتمع وتوضيحها، من جهة مع الآخر مستعمر الأمس أو المستعمر الجديد، بناءً على احترام سيادة الدولة ووحدتها الترابية، واستقلاليتها في اختيار شركائها بما فيه مصلحة الشعوب واستقرار الدول وحماية السيادة الترابية والدفاع عنها بمفهوم التشارك الأمني ضد تجار السلاح والبشر والمخدّرات، والمجموعات الإرهابية التي تنتعش أمام هدم الدول والتلاعب بسيادتها.
بناء على هذا الطرح نعتبر المثقف شريكًا استراتيجيًا في التغيير والبناء. لهذا نراهن في رابطة كاتبات إفريقيا على المضيّ قُدُمًا في الدفاع عن المشترك وتقويته، كما الدفاع عن المثقفة والمثقف الإفريقي وإسماع صوتهما داخل الحدود وخارجها، لأننا نؤمن بأن أي تغيير، ينبع من تغيير العقليات وتوجيهها نحو بناء صروح السلم والسلام والتعاون والتضامن وبالترافع عن العدالة وحقوق الإنسان في أي مكان ونشر الوعي والثقافة ورسم صور وتعبيرات الجمال.

الكاتب : بديعة الراضي - بتاريخ : 12/10/2023