التعليم واستحضار المصلحة العليا للوطن

عبد السلام المساوي

التعليم أهم بكثير من تركه بين أيدي «السياسيين».
أستعير الفكرة، هنا، من رئيس الوزراء البريطاني وينستون تشرشل، إبان الحرب العالمية الثانية، وهو يتحدث عن خطر ترك اتخاذ قرار الحرب وخوض غمارها بأيدي العسكريين. ذلك أن الحرب هي مجال للقرار السياسي الإستراتيجي حصرا، وهو من صميم اختصاص رجال السياسة، وما على العسكريين، سوى السهر على وضع وتنفيذ الخطط الكفيلة بربح الحرب التي تدعو الضرورات السياسية إلى خوضها.
وكذلك يمكن القول، مع تحوير جوهري لفكرة تشرشل، في شأن التعليم عندنا تماما، بحيث لا ينبغي تركه تحت رحمة التجاذبات الحزبية السياسية الضيقة بالتعريف، خاصة ونحن نعاين النتائج الكارثية لمثل هذا السلوك، الذي حول تعليمنا إلى حقل لتجارب فاشلة، في أغلبها، ومدمرة للأجيال علاوة على هدر أموال طائلة في الذي لا طائل يرجى منه. إذ يكفي مساءلة التقارير الوطنية والدولية الجادة للتأكد من كون الحصاد هزيلا جدا، على كثير من المستويات، وفي مقدمتها مستوى الأمية المنتشرة في مختلف الأوساط بشكل مخيف، وخاصة لدى الفئات الفقيرة من المواطنين، رغم أن القرار الإستراتيجي المعلن للدولة هو تعميم التعليم منذ عقود طويلة. بل إنه كثيرا ما تم الإعلان أن تعميم التعليم في وضع المتحقق في فترات ما.
إن هذا الوضع يسائل الجميع ويحتم على مختلف الفاعلين معالجة المشكلة من أساسها، وليس الاكتفاء بتناول أعراضها ومظاهرها بنوع من التشذيب والترميم حينا، والمراوغة غير المجدية أحيانا أخرى .
ومما لا شك فيه أن النظام التربوي يشكل أحد المحاور الرئيسية في كل نموذج تنموي قابل للحياة للعقود المقبلة. ذلك أن القدرة على مواكبة التطورات الدراماتيكية التي تعرفها مختلف مجالات العلم والتكنولوجية تتطلب نموذجا تنمويا متماسكا في مختلف مرافقه، مرنا في تعاطيه مع المستجدات في مختلف المجالات، وواضعا في مقدمة اهتماماته ورهاناته تكوين أجيال قادرة على أخذ زمام المبادرة وابتكار أساليب نوعية في مواجهة تحديات النمو والأزمات المرافقة للتقدم العلمي العالمي.
ويبدو أن استقالة التعليم العمومي عن أداء هذا الدور خطأ استراتيجي كبير، على اعتبار كون هذا التعليم بالذات هو القادر على صهر الشخصية المغربية في بوتقة التقدم لأنها هي الوحيدة القادرة على استحضار المصلحة العليا للوطن في مختلف مراحل العملية التعليمية.
وبطبيعة الحال، فإن اعتماد التعليم العمومي أساسا في النموذج التنموي الجديد، ليس يعني الانغلاق على المبادرات الاستثمارية الحرة، في هذا المجال، بحيث تؤول إلى الدولة مسؤولية السهر على أن لا يتخذ لنفسه مسارا مضادا للتوجهات الأساسية للدولة لما لذلك من نتائج سلبية أكيدة على تطور البلاد ومستقبل أجياله. وسيكون هذا أخطر بكثير متى تم ترك الحبل على غارب كل من هب ودب لولوج هذا القطاع تحدوه في ذلك بشكل شبه حصري الرغبة في تحقيق الربح السريع على حساب المواطنين الذين فقدوا الثقة في التعليم العمومي معتقدين أن التعليم الخصوصي هو الخلاص.
إن أهمية التعليم الخصوصي ينبغي أن تتجلى في الدور التكميلي الذي يقوم به مقارنة بالتعليم العمومي الذي ينبغي أن يظل العمود الفقري والمحور الرئيس للعملية التربوية في بلادنا.
وإذا أضفنا إلى هذا وذاك، مسألة عدم التناسب بين التعليم العصري بفرعيه العمومي والخصوصي مع التعليم التقليدي، لفائدة هذا الأخير، كما تبين ذلك الأرقام، فإن كل هذا يدعو إلى وقفة جدية جديدة لإعادة تحديد المسارات بما يتوافق مع بناء المجتمع الحداثي المنشود. وهذا لن يكون إلا بالقطع مع إخضاع التعليم للتجاذبات الحزبية الضيقة أو تحويله إلى نسخة مشوهة للتعليم في هذه البلاد أو تلك من البلدان المتقدمة تحت أي تبرير كان .
إصلاح التعليم في انتظار جدية الحكومة
بعد مرور سنتين على تنصيب الحكومة، لاشيء جديد بالنسبة للمنظومة التعليمية، باستثناء الحوارات والجولات والتصريحات، فجل القوانين والمراسيم التي يشملها القانون الإطار الذي أشر عليه الملك منذ 2018 لا زالت مجهولة المصير، ووعد إخراج نظام أساسي منصف وعادل لرجال التعليم بمختلف فئاتهم لا زال رهين الارتباك، وكل التزامات البرنامج الحكومي والتعهدات الانتخابية بخصوص التعليم تنتظر فرصة التنفيذ.
صحيح نحن أمام إصلاح قطاع استراتيجي ليس كباقي القطاعات الحكومية، لا من حيث حجم الموارد البشرية التي تقترب من نصف المليون، ولا من حيث ثقل التركة التي يعاني منها، ولا من حيث الكلفة المالية المطلوبة للإصلاح ولا من حيث تعدد الفاعلين وتناقض رهاناتهم السياسية والنقابية، لكن كل هاته الإكراهات الواقعية ليست مبررا لاستمرار حالة الانتظارية التي دخلها إصلاح التعليم منذ تشكيل الحكومة…
إن التأخر والبطء الحاصل في تنزيل الإصلاحات التعليمية سيوقع الحكومة في خطأ جسيم وسيجعلها تكرر التجارب نفسها التي نعيش تركتها اليوم. فلا يمكن أن يتحول الإصلاح إلى أجل غير مسمى في الوقت الذي اعتقدنا أن الإجماع حصل حول التشخيص، وأن اعتماد الرؤية الاستراتيجية لإصلاح المنظومة التعليمية وإقرار القانون الإطار ومخرجات النموذج التنموي كافية للانطلاق بسرعة نحو المستقبل، لكن الذي تبين في ما بعد هو أن هذا التراكم لم يكن مهما وفضل وزير التعليم الانطلاق من نقطة الصفر وأخذ الوقت الكافي.
ويبدو أن القطاع الوصي لا يقيم وزنا لزمن الإصلاح، فكل موسم دراسي نضيعه في الحوارات والتجاذبات بين الفاعلين في المنظومة التعليمية يضيع معه مصير عشرات الآلاف من التلاميذ وكل ذلك بسبب تأخر موعد دخول الإصلاح حيز النفاذ.

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 05/12/2023