الحاجة إلى الواقعية قولا شجاعا وفنا خلاقا بلا زواق

أحمد المديني

لا يكتبُ الكاتبُ دائما ما يُريد، وهو ليس حرّاً مطلقَ الإرادة واللسان كما يظن بعضٌ، يتصورون أنهم إذا انتقلوا إلى هذا الوضع سيُصبحون، بأداتَيْ اللغة والفصاحة، بُلغاءَ وطُلقاء، ثم حسَب موضة هذه الأيام مشاهيرَ يجلسون في الصفوف الأمامية وتُسلّطُ عليهم الأضواء. الكاتبُ غالباً في عُسر، إذا وُجد في أرض الحرية والكرامة حيث لا قيودَ على الإنسان عانى في كيفية التعبير عن نفسه من خلال بؤرةِ وجوده يَنشُد اليُسر؛ وإن في بلدانٍ مأسورةٍ بين حواجز الحرمان والقهر والاستبداد، هي الأكثرُ، الأكبرُ في الأرض، لزِم عليه أن يكون العظمَ واللسان، أن يَكبِت روحَه ليصرُخَ ويحتجَّ ويصبحَ، على عِلاّت هذه المبالغة، صوتَ قومه ولأحوالهم الرسالةَ والعنوان، فإنِ انصرف لغير هذا إمُّا يُلام أو بالنرجسيةِ والرومانسية كأنهما وصمةُ عارٍ لِيُدان.
والحال، أن الكاتبَ فردٌ جوهر، إذا خُنِقَ صوتُه وبُتر قلمُه وقُلِّصت قامتُه وحُجِبَ ظلُّه لاغٍ وما هو كان. كلُّ الإبداع البشري دار حول تكوين وتحقيق فرادةِ هذا الصوت، وبيانِ طاقة هذا القلم، وألوانِ وظلالِ تلك الصورة مبنىً لمعنى، لِمعانٍ يبحث عنها الكائن، أو ظواهرَ تَحيّر في فهمها، وأخرى سعى ليقرِّرها نَسقاً للوجود. علِمْنا سعيَه لذلك في فنون الملحمة والشعر ومباحثِ الفلسفة والدين والتصوّف، بالعقل والعاطفة، بالمنطق ونقيضِه من الخوارق والكرامات، وكلّها تعابيرُ عن مستوياتٍ من الإحساس والإدراك انسجمت مع مراحلَ ومراتبَ وأوضاعٍ من حياة البشرية، لا يجوز أن نقول هذه تَفْضُل على تلك، ما نعتبره في الحاضر انحطاطاً وجهالاتٍ هو وعيٌ نُسقِطه على زمن تميّز بشرائعه ونواميسه وسماتِ عيشه، إنما ليس المثال، ولا نحن بمجبرين على البقاء في زمنيته، إن آمنّا بأن التاريخ وهو سجلُّ وقائعَ قانونه الذهاب إلى المستقبل.
الفردُ الجوهرُ بمعنىَ إذ ينطلق من ذاتيته لا يستقرُّ فيها ويجعلَ منها بؤرة العالم، بل تستغرقه وتُقيم فيه ويتأهّل بكينونة جماعية، بالقدرة على تشرُّب شؤونِ وشجونِ محيطه من خلال حالاتٍ فردية وأزماتٍ تبدو خصوصيةً وهي بتوالدها وتعدّدِها تغدو مجتمعةً عمومية. وما الذي يميّزه هو قياساً بها، وفي علاقة بما تعيشه؟ وأيّ فضولٍ أو مَزْعَمٍ هذا يجعله في لحظة ما يتصور أن إليه يرجع دور التعبير عنها، استبطانِ نفوس ورصدِ أوضاع ووصفِ أحوال؟ من الادّعاءِ التصدي لأسئلة ماثلةٍ في حيّزٍ محدود، ولا أنا راغبٌ الخوض فيها، وإلا فإن عليّ أن أبدأ بمنشأ الرسالات، وأصلِ الإبداع وانبثاقِ المواهب بين الناس، والفرزِ بين أشجى الطيور تغريداً فوق الأفنان ومثلُ هذا من معجزات الطبيعة، من قبيل سمفونية أسمعُ العصافير تشترك في عزفها باكراً في حديقة خلفية لبيتي والليلُ ساجٍ لكنه الفجر لاح تعرف وقته وتستيقظ لتوقظ الأنام وتبدأ يوما جديدا بالعزف كما يفعل الديك معلنا عن الصباح، إنما من يا تُرى يدير هذه الجوقة العظيمة وهي تعزف أنشودة الكون العظيم، الرهيب؟ من هذا المايسترو الذي يتوسّطها يُوزِّع العازفين وينظّم دورَ كل واحد وأداءه على الوجه المطلوب؟ قائلٌ إنه لله، قائلٌ إنه الجن، قائل إنه عبقر، وقائلٌ أيضا، إنه مبدعٌ، شاعرٌ أو كاتبٌ غالبا به لوثة، أو سيدّعي بأن من واجبه أن يكون واقعياً.
الكاتبُ في الأدب الحديث ظهرَ في الزمن العصري الذي دُشِّن في القرن التاسع عشر حين بدأت الاكتشافاتُ العلمية والتحولاتُ الاقتصادية والتغيراتُ البنيوية جرّاء هذا للمجتمع والسكان. لم تعد البلاغة، أي البيانُ السّاحرُ بمجازِه وبديعِه وتصاويرِه وسيلةً للخطاب ويُلبّي حاجةَ التواصل .نشأ نثرُ فنٍ جديدٍ بمثابة ثورةٍ كوبرنيكية في النثر الحديث تمثّلَ بالنقلة النوعية للرواية، وهي تُعيد نهوضَها على أسس موضوعية وبمنظور واقعيّ من قلب التّشكلات المحدَثة للمجتمع، وهذا ما صنعه بلزاك في مجموع أعماله الروائية التي سُمّيت ب(الكوميديا البشرية) بديلاً ل(الكوميديا الإلهية) لدانتي، أي بإعطاء البطولة للإنسان في الأرض وإنزاله من السماء مناط خيالها العالي. لقد جاء تحديثاً كبيرا في الأدب وفهْم عملِه وفي كيفية صُنع مخيلةٍ جديدةٍ له. وهو الشيء ذاتُه الذي فعله بعده نجيب محفوظ بعد قرنٍ فأرسى الروايةَ فنا عربياً بلا منازع.
هو ورعيلٌ من الكتاب من جيله وبعده بقليل عرفوا كيف يعبّرون عن واقعهم ويضعونه في الصدارة ويُنطقون لغاتِه وشخوصَه وأوجاعَه بذكاءٍ وفهمٍ خلاقيَن ووعيٍ والتزام، مؤمنِينَ بقضايا وهم مهَرةٌ صناعٌ لفنهم غيرُ متساهلين، وهكذا زاوجوا بين الحُسنيين. هو انتقالٌ متساوقٌ مع تحولاتٍ سياسيةٍ منتصرةٍ لإيديولوجيات ثورية وعملياتٍ انقلابية ونشوءِ طبقات اجتماعية صاحبةِ مصلحة في التغيير، وبقدر ما كانت تتبلور وتتأزّم كان الأدبُ الروائيُّ يعمّق رؤيتَه ويُكثّف تشخيصَه لأوضاعها ومعضلاتِ زمن مختلف، الروائي كان خلالها والكاتب له موقف. من الملاحظ أنه كلما كانت جذوةُ الثورة تخبو ومطامحُ التغيير تتعرض للانتكاس والنُّخبُ المعوّلُ عليها ترتدّ وتستبدّ، إلا وشجاعةُ التعبير الواقعي تضمُر وتتراجع لتركَن إلى ظِلال الرمز والمجاز ولتأهيل الاستعاريّ والإيحاءِ على التجسيد والتعيين. لقد ضَيّقَ الاستبدادُ وخنقُ الحرياتِ فسحةَ القول الحرّ بأيِّ شكلٍ ونوع، ولم يترك الفرصة تقريبا إلا لطريقتين في التعبير: تصريفُ الغضبِ والاحتجاجِ بتغريبِ اللغة والشكل وميلٍ إلى التجريد يطمسُ المعالمَ ويُشتّتُ الخطابَ وينزعُ من النثر قدرةَ التسمية والتعيين ويغطسه في بِركة الشعر وتهويمات الرؤية الحلمية. يسمّى هذا تجديد، بمعنى ثورة ضد الواقعية بات يُنظر إليها، عجباً، نكوصا فنيا مُريعاً.
الطريقة الثانية، هي تعميمُ الخلط بلا معايير، وكلُّ كلام مُرسلٍ يتكنّى عنوةً فناّ، فلا الشعرُ شعرٌ ولا النثرُ نثر، ولا سلطةَ للأدب بقواعدَ ونُظمٍ ومفاهيمَ وتجاربَ، سيُدان بالأبوية والوصاية، باستهتار أن لا حدود للكتابة، إنما لا تجرؤ على أكثر من هذا، فالإمعان في التجريب ليس دائما كما هي التجريبية في تاريخ الإبداع اختبارٌ نابهٌ وجرّيئ لاختراق للحدود أوسع وقولٍ للذات شاسع، كثيراً ما ترتدُّ على عقبيها تمارينَ شكلية وتلفظاتٍ جوفاء فتعضُّ ذيلَها لا موضوع لها. الآن، نحن في حاجة إلى استرجاع طاقة واقعية قوليةٍ شجاعة لا تجبُن وتُدير ظهرَها للحياة وأزماتِ المجتمع، لا في الأدب وحدَه، بل في كل مناطق ومضانّ وجودنا لكي نصيرَ أفضل، وفي الوقت حبلى بالخيال وصهيل الكلام وذلك البيان الذي قال عنه الرسول عليه السلام إن من البيان لسحراً، والسّحرُ يقال إنه يحوّل الفضةَ إلى ذهب، والجمادَ إلى حيّ، والكُتاّبَ والشّعبَ المواتَ إلى شُجعانٍ يقول للمستبدّ وللجبان نحن أقوى منك» ولك يوم يا ظالم مهما طال اليوم»!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 15/02/2023