الشبيبة الاتحادية بين أسئلة الجيل ورهانات الدولة الاجتماعية
محمد السوعلي
1. تمهيد: حين يتحول سؤال الشباب إلى سؤال دولة
ليس من باب المصادفة أن يبقى الوعي الاتحادي صلبًا في زمن الانكسارات القيمية، لأن الفكرة الاتحادية، حين تتجذر في وجدان المجتمع، تتحول من شعارٍ سياسي إلى ضميرٍ جماعيٍ حيّ يعبّر عن جوهر الالتزام الوطني.
أكتب من قناعةٍ راسخة بأن الشبيبة الاتحادية، التي هي واحدة من الآليات الرئيسية التي تقوي تجدر الحزب في المحتمع، ليست امتدادًا بيروقراطيًا داخل الحزب، ولا سطرًا في ذاكرة النضال فحسب، بل تنظيمٌ موازٍ متشبّع بمبادئ الحزب وأدبياته ومنهجيته النضالية، وطاقة فكرية متجددة تُولد من رحم الأزمات وتمنح السياسة معناها الأخلاقي كلما اشتدّ العطب في الوطن والمجتمع.
ويكتسي الدور الذي تضطلع به الشبيبة الاتحادية أهمية قصوى في السياق الحالي، سياق لم يعد يسمح باعتبار الشباب مجرّد فئةٍ عمريةٍ في الإحصاءات، بل عنوان أزمة وطنية تتقاطع فيها البطالة والتعليم والهوية والانتماء. سياق يضعف فيه أمل العديدين في المستقبل، و تُصاب السياسة تبعا لذلك بالجمود، ويتراجع الفعل الجماعي لصالح الانعزال الفردي واليأس الاجتماعي.
إنّ السؤال الحقيقي الذي يفرضه هذا الواقع هو: كيف نعيد بناء الجسور بين السياسة والشباب؟ وكيف نجعل من الدولة الاجتماعية واقعًا لا وعدًا، ومن العدالة الاجتماعية ممارسةً لا شعارًا؟
سأحاول في هذا المقال أن أقدّم إجابة موضوعية على هذه الأسئلة، معتمدًا منهجية تحليلية علمية تستند إلى الواقع الملموس وتُعالج القضايا الكبرى التي تمسّ الوطن والمواطنين على حدّ سواء.
2. الشباب المغربي بين الأزمات البنيوية والإكراهات الظرفية
يعيش الشباب المغربي اليوم على إيقاع تحولاتٍ معقدةٍ تمسّ الاقتصاد، والتعليم، والثقافة، والهوية، وتؤثر في علاقته بالوطن والدولة والسياسة.
فمن جهة، يواجهون اقتصادًا هشًّا وآفاقًا ضيّقة تجعلهم أسرى البطالة أو الشغل غير المهيكل، في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة وتراجع القدرة الشرائية وغياب رؤية تنموية تستثمر في قدراتهم.
ومن جهة ثانية، يعاني التعليم من أزمةٍ عميقة، إذ لم يعد قادرًا على أداء وظيفته الأساسية في تكوين الكفاءات وتكافؤ الفرص. إنّ المدرسة المغربية، بدل أن تكون فضاءً للارتقاء الاجتماعي، أصبحت في كثير من الأحيان تُعيد إنتاج الفوارق الطبقية والمجالية، فتعمّق الإحساس بالغبن والتهميش، خصوصًا لدى الشباب القروي والمهمّش.
تنعكس هذه الأزمات في تآكل الثقة العامة؛ فالعزوف عن المشاركة السياسية لم يعد ناتجًا عن اللامبالاة، بل عن شعورٍ متزايدٍ بأنّ القرار لا يعبّر عن طموحات الشباب ولا يستجيب لأسئلتهم الحقيقية. كما أنّ الفضاء الرقمي، على اتساعه، زاد من حدة المفارقة: إذ منح الشباب حرية التعبير، لكنه في الوقت نفسه زاد من ضبابية الحقيقة ومن هشاشة التواصل السياسي.
في خضمّ هذه التناقضات، يبرز جيلٌ يبحث عن المعنى قبل التموقع، وعن الفعل قبل الخطاب، وعن العدالة قبل الوعود. جيلٌ يريد أن يُحاور لا أن يُلقَّن، وأن يُشارك لا أن يُستغل، وأن يكون فاعلًا في صناعة القرار لا مجرد رقمٍ في معادلات انتخابية عابرة؛ جيلٌ يرفض أن يُختزل في الصور النمطية أو أن يُستعمل وقودًا ظرفيًا للسياسة، لأنه يؤمن بأنّ المواطنة ليست تبعية، بل شراكة ومسؤولية وحقٌّ في بناء المستقبل.
3. الشبيبة الاتحادية: من مدرسة الوعي إلى مختبر الفعل الاجتماعي
منذ نشأتها، لم تكن الشبيبة الاتحادية جهازًا حزبيا شكليًا، بل ضميرًا فكريًا وحسًّا نقديًا داخل الحركة الاتحادية. كانت دائمًا تُعيد تعريف السياسة على ضوء قيم الكرامة والمساواة والحرية. ولأنها وريثة مدرسةٍ تقدميةٍ تؤمن بأن الاشتراكية ليست نظريةً جامدة بل مشروعٌ إنساني للعدالة، فقد جعلت من النضال الشبابي التزامًا أخلاقيًا قبل أن يكون موقعًا تنظيميًا.
اليوم، تتجلى قوة الشبيبة الاتحادية في قدرتها على الجمع بين التحليل والمبادرة، بين الوعي والممارسة. فهي ترفض أن تكون مجرد شاهدٍ على التحولات، بل شريكًا في صياغتها من داخل المجتمع ومن خارجه. تدافع عن قضايا الشباب، لكنها في الوقت نفسه تدافع عن حق الوطن في جيلٍ يفكر ويُصلح ويقترح.
4. في مواجهة التحديات: الشبيبة الاتحادية كقوة اقتراح وتأثير
لم تعد الشبيبة الاتحادية تكتفي بمراقبة التحولات، بل أصبحت قوة اقتراحٍ وفعلٍ وتأثير. من داخل الحزب، تُمارس النقد البنّاء وتدفع في اتجاه التحديث التنظيمي والمأسسة، ومن خارجه تنخرط في المبادرات المدنية والمنتديات الدولية للدفاع عن قيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
إنها مدرسة سياسية حقيقية، تُكوّن الأجيال على فن الإصغاء والتحليل والتعبئة، وتركز على بناء الكفاءات الشابة في مجالات السياسات العمومية، الاقتصاد الاجتماعي، والعدالة البيئية، وتحوّل الفكرة الاشتراكية إلى برامج عملية.
على المستوى الميداني، تُجسّد الشبيبة الاتحادية نموذج الفعل القاعدي القادر على تحويل الوعي إلى مبادرات: من حملات التوعية بالمواطنة والبيئة، إلى دعم الاقتصاد التضامني، مرورًا بتأطير الشباب في المناطق القروية والهامشية.
بهذا المعنى، لم تعد الشبيبة تنظيما شبابيا فقط، بل مخبرًا عمليًا للتغيير الاجتماعي.
5. من الفضاء الرقمي إلى الميدان: انفتاح جديد لبناء الثقة
الجيل الاتحادي الجديد وُلد في عالمٍ رقميّ متحوّل، حيث تختلط المعلومة بالصورة والرأي بالشائعة. لكن الشبيبة الاتحادية اختارت أن تحوّل هذا الفضاء من مجال استهلاكٍ سلبي إلى أداة إنتاجٍ للوعي: تنشر المعرفة، وتفكك الخطاب الشعبوي، وتبني منصّاتٍ رقمية تُقرّب القيم التقدمية من اللغة الجديدة للشباب.
غير أن الفعل الرقمي لا يكتمل دون ميدانٍ يحتضنه. فالسياسة التي لا تلمس الشارع ولا تصغي إلى الأحياء الشعبية، تفقد معناها. لذلك، يتحتم على الشبيبة الاتحادية اليوم أن تُجدّد أساليب عملها، وأن تربط الفضاء الافتراضي بالفضاء الاجتماعي، لتصير الجسورُ بين الفكر والعمل أكثر واقعية.
الثقة لا تُستعاد بالوعود، بل بانتصارات صغيرة متراكمة: في مدرسة تُفتح أبوابها للثقافة، في مشروع شبابي يجد التمويل، في شارعٍ يُنار بعد طول إهمال، وفي شابٍ يستعيد حماسه للمشاركة بدل الهروب أو العزوف.
6. خاتمة: الماضي ذاكرة، والمستقبل ورشة بناء جماعي
الماضي ليس حنينًا جامدًا، بل رأسمالٌ أخلاقي ومعرفي يؤكد أن الاشتراكية المغربية لم تكن يومًا استيرادًا أيديولوجيًا، بل اجتهادًا وطنيًا في العدالة والكرامة.
لكنّ الحاضر يفرض علينا أن ننتقل من استحضار الرموز إلى بناء الأدوات، ومن تقديس التاريخ إلى صناعته من جديد بأدوات عصرنا.
فالمستقبل لن يُمنح لنا، بل نصنعه حين نجعل من الفكرة التزامًا، ومن الالتزام برنامجًا، ومن البرنامج أثرًا يُرى ويُحسّ. إنّ العزوف عن السياسة، وانعدام الثقة في الأحزاب، وضعف الدم المؤسسي في التنظيمات، ليست قدرًا، بل تحديات قابلة للتغيير متى وُجد الصدق والإرادة والرؤية.
على الاتحاديات والاتحاديين أن يدركوا أن زمن الخطاب الانفعالي انتهى، وأن المرحلة المقبلة تتطلب تجديدًا فكريًا وتنظيميًا يجعل من الشبيبة الاتحادية قلب الحزب النابض وعقله المستقبلي.
السياسة ليست مهنة، بل التزامٌ يومي تجاه الوطن. والمواطنة ليست بطاقة تعريف، بل فعل مشاركة ومسؤولية. هكذا فقط يظل الوعي الاتحادي يتجدّد جيلاً بعد جيل، ويظلّ صوت الشبيبة الاتحادية ينحت الأمل في صخور الواقع، ويعيد للمغاربة إيمانهم بأن المستقبل يُبنى بالإرادة، لا بالانتظار.
الكاتب : محمد السوعلي - بتاريخ : 12/11/2025

