الطاهر يمتحن قدرتنا على البكاء!

سعيد منتسب

سأصدق أن الروائي الطاهر بنجلون خلع ضميره «العربي» ليتكلم أمام أسياده بصوت حليق وأنيق. ليس بوسعي إلا أن أصدق أن هذا الكاتب «يتغير» مع اتجاهات الريح دون انقطاع، وأن أقدامه تغوص، عن عمد وسبق إصرار، في وحل الحسرة الصهيونية، وإلا كيف يمكن أن نفسر إمعانه «البكائي»في إماتة «قضية» هو من يعرف جيدا أن الفلسطينيين هم دمها وليسوا رصاصها.
لقد وصف الطاهر ما وقع في السابع من أكتوبر، من فشل استخباراتي وأمني وعسكري إسرائيلي، بأنه «جرح للإنسانية جمعاء»، والحال أن كل فلسطيني (لم يتحول بعد إلى جثة) يحمل جرحه الصادق والمباشر طي ضلوعه. تاريخ طويل من الجروح، ولم يشعر الطاهر بعضة حادة في قلبه إلا بعد أن سقط الإسرائيليون. دم الفلسطينيين قدر والرهان عليه ورقة يانصيب خاسرة، ودم أعدائهم جريمة بربرية والرهان عليه رسوخ في الحظ وانتماء غير مشروط إلى الإنسانية !
أراد الطاهر أن يقنعنا (بالعقل) بأن القتل لا يساوي القتل، والحرب لا تساوي الحرب، واغتصاب الأرض مجرد «كلمات متقاطعة»، وبأنه ليس سعيدا لأن «حماس» حيوان مسعور «قتل القضية». لسنا مع حماس، ولا مع ما فعلته حماس، ولا مع الموت الذي ينام بعينين جاحظتين على الأرصفة، غير أن لا شيء يمكن أن يبرر ما يفعله الاحتلال الإسرائيلي بالفلسطينيين العزل. لا شيء البتة يستحق أن نوبخ مجموعة إيديولوجية بالإمعان في شرعنة القصف والوقوف إلى جانب القاتل، وتحويل المباني إلى مقابر جماعية. لا شيء يبرر أن نمنح تل أبيب علامة «ممتاز» في القتل !
ماذا تسمي ما يفعله الإسرائيليون بنساء فلسطين وأطفالها؟ هل القتل النازل من السماء مجرد أغنية من أجل رأب الجرح الإنساني؟ هل الإسرائيليون بشر، بينما قدر خمسة ملايين فلسطيني أن يموتوا بالتقسيط المريح في شوارع التخلي الكئيبة؟
لقد انتبه الطاهر من غفوته، وخرج من سهومه، ليشعر بالرعب «لأن الصور التي رأيتها أثرت في أعماق إنسانيتي». الأكيد، أيها الكاتب غير المبجل، ألا أحد من «الإنسانيين الفضلاء» مع القتل، ولا مع التمثيل بالجثث في الطريق العام، ولا مع نصب المحارق والمقاصل، ولا مع الازدحام في الجوارب الممزقة للانتقام. لكنهم أيضا ليسوا مع التمييز بين هذا العرق وذاك. لا يتألمون فقط لإسرائيل، ولا يدوسون على حقوق الفلسطينين كما لو كانت حبات عدس، ولا ينظرون إلى المقنبلات والراجمات الإسرئيلية كما لو كانت طائرات ورقية.
ما أدهشني في مقال الطاهر بنجلون ليس هو إعلان «وفاة القضية الفلسطينية»، بل هو ذلك الإصرار المضمر على كسر «حصالة الدموع المزيفة» في عينيه، وإظهار القضية كما لو كانت مجرد رأس خروف أحرقته حماس، وأن علينا جميعا ألا ندين الرجم الإسرائيلي الوحشي، وأن نكتفي في اللحظة الراهنة بإلقاء اللوم كله على كتائب عز الدين القسام، ولا بأس أن نمشي جميعا في جنازة القضية الفلسطينية باقتناع تام أن القاتل يستحق سريرا شاسعا في الصحراء.
ما يؤلم حقا في ما يقترحه علينا الطاهر هو تلك الدعوة المضمرة إلى عدم الاحتجاج كأننا «لم نر مقبرة». علينا أن نخرس، وألا نتحدث عن همجية الاحتلال الإسرائيلي، ولا عن الحصار والتجويع. علينا فقط أن ندين حماس وننتزعها من الحق المشروع في الدفاع عن الأرض، وأن نكتفي نحن، أمام «الأبوكاليبس الإسرائيلي»، بامتحان قدرتنا على البكاء..

الكاتب : سعيد منتسب - بتاريخ : 17/10/2023

التعليقات مغلقة.