العقلانية السياسية

عبد السلام المساوي

تعتبر العقلانية السياسية، والشروط الدالة عليها في الممارسة، مكتسباً حقيقياً بالنسبة إلى مختلف الفاعلين السياسيين الذين يستهدفون التأثير في الواقع، والعمل على تغييره. فبفعل التراكمات التي تحققت في هذا المجال، انطلاقاً من تفعيل مبادئ الواقعية والتحليل الملموس للواقع الملموس، بعيداً من كل الإسقاطات والإضافات الإيديولوجية، وبفعل الاستخدام المنهجي الواعي، لعدد من المفاهيم والمقولات الأساسية في مجالات الممارسة وفي مقدمها مفاهيم موازين القوى والمرحلية في تحديد المهام، والإمساك بالحلقات المركزية في العمل السياسي على قاعدة نوع من التناسب بين الأهداف والوسائل المتاحة والطاقات الممكن تجنيدها في مختلف مراحل العملية السياسية التغييرية، بفعل كل ذلك، تم القطع عملياً مع نوع من الممارسات التي تتسم بالتردد حيناً، والمغامرة والتخبط في أغلب الأحيان.
الأمر الذي وفر للفاعلين السياسيين شروطاً ملائمة لجعل الإنجازات الملموسة ممكنة، باعتبار أن التكتيكات المتبعة أكثر ملاءمة للظرفية العامة التي تجرى فيها الممارسة، حيث تحظى بدعم ومساندة أوسع القوى الاجتماعية والسياسية، بخاصة إذا تمت بلورة تلك التكتيكات، وصوغها في شكل يجعل تلك القوى والفئات ترى فيها مصالحها مجسدة إلى هذا الحد أو ذاك، باعتبار ذلك من الشروط الأساسية للانخراط في تطبيقها على أرض الواقع تحقيقاً للمصالح، ودرءاً للأضرار التي تنجم بالضرورة عن التهاون في مواجهة استحقاقات المرحلة التي تحاول تكتيكات الممارسين تكثيفها وجعلها قابلة للتفعيل. غير أن الطاقة الإجرائية التي لدى مفهوم العقلانية السياسية يمكن ان يطاولها الخلط والتشوش والتحريف، مما قد يؤدي، الى الدفع بمنطق الانحراف الناجم عن ذلك الخلط إلى حدوده القصوى إلى تحويل العقلانية إلى مفهوم معوق للممارسة ومبرر للعجز والاستسلام للأمر الواقع. ومن الملاحظ أن منطق التبرير هذا عادة ما يلجأ إلى المقولات والمفاهيم إياها التي تقوم عليها العقلانية السياسية، بعد أن يتم إفراغها من مضامينها الأصلية، وتدمير كل مفاعيلها الإيجابية ليتم تجنيدها لخدمة منطق التبرير، بعدما كانت مقولات لتأطير منطق الفعل والتغيير.
هكذا يتحول مفهوم موازين القوة إلى وسيلة للإيحاء بأن اختلالها لفائدة القوى السائدة داخل المجتمع والدولة أو مقارنة بما عليه حالة القوى الإقليمية والدولية، يلغي مجرد التفكير في العمل على أي مستوى من المستويات على تغيير هذه الحالة والدعوة، بالتالي، إلى الاكتفاء بما تسمح به القوى السائدة في الداخل أو تلك المهيمنة في الخارج، من شعارات وممارسات.
وقد يدفع هذا المنطق بالبعض إلى حصر مهمة العمل السياسي في مجرد الاكتفاء بالمناشدة وربما الاستجداء السياسي على أبواب المتحكمين في اللعبة السياسية في الداخل أو الخارج. ذلك أن كل انخراط في عمل جدي باتجاه تعديل موازين القوى والتخفيف من حدة اختلالها ينظر إليه باعتباره مغامرة ما بعدها مغامرة، والدليل على ذلك أن الانخراط في مثل هذه المشاريع قد تنجم عنه تضحيات جسيمة لا قبل للقوى المغامرة بها، كما لو أن النضال السياسي يخلو من التضحيات أصلاً، وكما لو لم يكن الاختلال في موازين القوى هو المبرر الأساس للانخراط في كل عمل تغييري نحو الأفضل.
وقد يتم تجنيد مفهوم الواقعية السياسية في هذا السياق التبريري حيث تتحول الواقعية من كونها تدعو إلى التعرف الدقيق على الواقع بمختلف معطياته بكل أبعاده، سواء منها التي يمكن اعتبارها إيجابية، ومساعدة لقوى التغيير، أو تلك التي تشكل تحديات بالنسبة إليها، من حيث كونها معوقة لممارستها، ومعرقلة لمشاريعها، للتعامل معها على أساس هذا التعرف والإدراك، إلى مجرد أداة تبريرية للتعايش السلبي مع الواقع والاستنكاف عن أي محاولة لتغييره، وذلك تحت يافطات متعددة تتراوح بين الاستكانة إلى قدرية عمياء وبين محاولة تجنب أي معاناة يمكن أن تنجم عن العمل على تغيير الواقع بالنسبة إلى الأفراد والجماعات على السواء.
العقلانية إذن، هي محاولة للإحاطة بكل العوامل والمعطيات التي يمكن أن تساهم في إنجاز عملية التغيير، وليست شكلاً من أشكال التبرير، كما أنها لا تعني أن الممارسة لا تتخللها مفاجآت قد تدفع بالقوى السياسية إلى تعديل أو تغيير تكتيكاتها السياسية، باعتبار أن المفاهيم مهما بلغت في دقتها لا يمكن أن تغني عن أخذ الوقائع على الأرض على محمل الجد. أي بكلمة، إن العقلانية السياسية منظوراً إليها في بعدها الحديث قد لعبت دوراً أساسياً في ضبط إيقاع التعامل مع معطيات الواقع والممارسة على هدي مقتضياتها، لكنها ليست محصنة، في حد ذاتها، ضد كل أنواع الانحراف. ومنها ما يحولها إلى نقيضها الذي هو إبطال الفعل السياسي في نهاية المطاف.

الكاتب : عبد السلام المساوي - بتاريخ : 10/01/2024

التعليقات مغلقة.