الفرنكفوني في متاهته، والنّوستالجيا آخر ملاذ

أحمد المديني

 

هي اليوم ملء السمع والبصر، ولم تحتج إلا لسنوات معدودة بعمر في طراوة عود كي تنتقل من اسم غفل في مجلتي» جون أفريك» إلى اسم لامع يكسر المبيع ويتصدر منشورات الرواية في دار غاليمار الباريسية العتيدة بعد خطو كالوثب في دور سابقة بنصوص متواضعة ثم بمثابرة كاتبة ناشئة تظافرت موهبتها مع حسن الطالع لتنال روايتها» Chanson douce» جائزة غونكور لعام 2016 أفضل تتويج للرواية في فرنسا. حازت بها ليلى سليماني التلميذة المغربية النجيبة بليسي ديكارت الرباطي التي انتقلت إلى باريس سنة 1999 شهرة ووضعتها منذئذ في طليعة الجيل الجديد من كاتبات وكتاب مغاربيين خلفوا روادا مؤسسين وتالين منهم في المغرب أحمد الصفريوي وإدريس الشرايبي، ثم عبد الكبير الخطيبي والطاهر بن جلون.
بيد أن هذه الأسماء ومن قبيلها تكتب بالفرنسية، ولها نظائر في بلدان عربية وإفريقية(الجزائر، لبنان، السينغال والكوت ديفوار..)؛ أضحت منذ وقت تثير إشكالية أو على الأقل تربك في التسمية والنسب، فهم بحكم اللغة التي بها يكتبون فرانكوفيليون، تعلموا الفرنسية في مدارسها وكذلك في المدرسة الوطنية التي كانت مزدوجة وبها تثقفوا وصارت لسان التعبير عن مشاعرهم وهمومهم، منه ما يسمى بـ (الأدب المكتوب بالفرنسية) ولا نقول الأدب المكتوب بالعربية، لأنها أصل وكتابها إذ ينهلون من سائر الثقافات لا ينتسبون إلى أفق أجنبي، أو هو العماد. هذا ما يقود إلى من يعيشون ويعملون في هذا المدار ووفق استراتيجية ثقافية وسياسية شاملة لها نظُمُها ومفاهيمُها ومؤسساتُها تسمى الفرنكفونية، هذه بالذات التي ترأسها اليوم الكاتبة سليماني بتعيين من الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون وباسمه ناطقة فيها.
لا أسعى إلى ربط ميكانيكي للأدب بالسياسة، وإن كان الأدب مهما شطّ في الخيال وعُزل عن الموقف الوبال ذا محمول سياسي، قديما قال جورج أورويل إن من يذهب عكس هذا يتبنى موقفا سياسيا. ما يعنيني هو موقف الكاتب داخل ثقافة ومجتمع وعن أي رؤية يعبر وكيف، وبالطبع، فاللغة أداة وازنة وحاسمة، حتى لو وُجد بيننا من يتخفف من عبئها ويريد التسوية بزعم الازدواجية، فيما العرب العاربة مذ نطق الحطيئة(جرول العبسي ت650م)» قوم هم الأنف والأذناب غيرهم/ومن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا»على هذه الملة فطرة ولو كره الكارهون. لا يمكن للتسوية أن تكون ذريعة وتصبح مسوِّغا وجواز عبور للجمع بين الأضداد وإبرام مصالحة فوق تاريخية بينما التاريخ الذي هو تركيبٌ عصبُ الأمة ومسار كفاح وحياة لوجود. لهذا يصعب ببساطة وهدوء قبول الجناس بين الفرنكفوفيلية والفرنكفونية، فالأول وهو الذي استعار لغة أجنبية أقصى جهده (ومزعمه) أن يفجرها من الداخل متناسياً عمدا بأنه بذا يُغنيها، والثاني من لا يكتفي بإحكام أدواتها وبلاغتها بل يعبر من داخل تصوراتها عن آخر تجاه آخر، إن الكاتب الفرنسي يعرف جيدا من هم أجداده ويعي آخره، هل يعرف الفرنكفوني أيضا؟
القول الفصل في النص شئنا أم أبينا، أخذنا بشرح الفقهاء أو تأويل الحداثيين الغربيين، نعني قراءته، وإذ نمارسها فإننا، حسب ألتوسير، لا ننتج نصا ثانيا وهي تفجره، ولكن نكشف عن النقائص والخفايا، ونضيف، عن دوافعه وبياضاته، ولا يمكن أن يؤخذ خطيا وانسيابيا كما تتصور ليلى سليماني جذبنا إلى سرديته التاريخية المصنوعة ومحكياته العاطفية والاغترابية الهجينة وعوالمه وشخصياته وفضاءاته من كل نوع، في روايتيها ذات الجزءين الأول بعنوان: «Le pays des autres» (غاليمار2020) و«Regardez-nous danser»(2022). هي خطّية تريدها الكاتبة الشابة تبدأ من منتصف الأربعينيات في خضم الحرب العالمية الثانية مع مجند مغربي (أمين) في صفوف القوات الفرنسية موقعه في إقليم الألزاس حيث يتعرف على بنت البلد ترافقه بعد نهاية خدمته يعود برتبة ضابط إلى مسقط رأسه في ضاحية مكناس إلى أحضان الوالد والأرض الزراعية التي سيرثها منه ويعكف على استصلاحها وتحويلها إلى ضيعة مثمرة وهو يصعد في السلم الفلاحي والمالي بات يزاحم المعمّرين الفرنسيين مع اختلاط تام بهم وعيش مزدوج نصفُه فرنسي تشاركه فيه زوجته الألزاسية المطيعة كخادمة تقريبا، ونصفه للمزرعة وتسخير العمال المغاربة ولنزواته وهو يعيش فصاما بين أصول وتقاليد مكناس العتيقة، وخليط من حياة فرنسية بالتواطؤ مع أصحاب المصالح الاستعمارية، يوازيها أبناء يتعلمون في مدارسه، منهم الناجح (البنت) والفاشل(الإبن) سيكون لهما مساران. في الطرف النقيض أخوه المتمرد المنخرط في المقاومة الوطنية، بقدرة قادر سيصبح بعد الاستقلال مسؤولا في جهاز المخابرات، بينما الضابط المزارع يراكم الثروات. وفي الجزء الثاني خاصة تختزل الساردة المتعجلة مغرب الاستقلال في ثنايا أكورديون من الأسماء والأحداث العلامات (انقلاب الصخيرات، ثم انقلاب أوفقير قفزا إلى تيمة سنوات الرصاص) لا بأس يعجن هذا بمعزوفات غرامية وحوادث (روكامبوليسكية) وخاصة توابل فولكلورية، أسلوب معهود في هذا اللون من المعالجة ورأسماله التخييلي والثقافي مهما تبدلت الأجيال.
ما شاغلي اختصار مجمل جزئي الرواية، سيعنى بذلك فئة معنية بها لغة ومضمونا ورؤية، وأشك أن يكون الفضاء الثقافي الأدبي المغربي مجالها هو في غنى عن استعادة سردية شبه كاريكاتورية لتاريخه لكتابنا الفرنكوفيليين باعٌ فيه بتمثيلات فنية ووعي أفضل، أما روائيو العربية فسيفغرون فاهم دهشة لما سيقرؤون. فيما يحضرني كلام للأديب الرباطي اللّوذعي عبد الجليل الحجمري وهو حجة في درس صورة هذا الأدب، انتقد ـ (موقع هسبريس 27 مارس 2022)ـ استمرار تبعية الأدب الإفريقي للغرب وكون سطوع مؤلفيه رهين بعواصمه، وبالحرف بـ» الحتمية الباريسية من أجل النجاح» وأنه يتعين عليهم الثقة في إبداعهم وعدم حاجتهم للمركز الأوروبي للاعتراف بهم. ترى هل تكفي الثقة؟ يعي هؤلاء الذين يغمز الكاتب النِّحرير من قناتهم أن لغتهم ومجالهم وأفقهم يقع خارج الأرض التي ولدوا فيها وهم يبقونها خزانا لا غير لسرود وحكايات ودراسات أيضا، وكتابتهم متجاوَزةٌ في وطنهم الأمّ كأنها لجالية(أجنبية) وكأنهم ينشؤونها لمتلقين آخرين خارج الحدود عينُهم على المتروبول يحوزون فيه شهادة الاعتراف وهذا واقع الحال، وهي معضلة لا تحلّها النّوستالجيا آخر ملاذ، كما في روائية سليماني، ونراها إشكالية عند السينغالي محمد مبوغار سار في روايته الغونكورية الأخيرة جعلت منه نجما وطنيا في دكار مستورَداً من باريس، حين يُسأل أين تقيم يجيب أنه في ذهاب وإياب!

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 11/05/2022

التعليقات مغلقة.