المؤتمر الاستثنائي الاتحادي العام 1975 مؤتمر متوهج عبر امتداد الزمن

محمد بودويك
كأنني لم أبرحه لحظة، كأن الزمن علق فجأة في تلك السنة الانعطافية الحبلى بالحراك والعراك. الحبلى بالأمل والألم كذلك. وإنني لأراني ألتفت يمنة ويسرة، فإذا أنا نقطة في بحر بشري هادر دخولا وخروجا، جلوسا وقعودا ووقوفا. الأصوات في عنان السماء ترتطم بسقف “قاعة الأفراح” بالدار البيضاء، وترتد مشتعلة لتصعد ثانية وثالثة في عملية تتكرر من دون أن تُمَلَّ، واللافتات تزين جدران القاعة الفسيحة، والمنصة التي سيجلس حولها قادةٌ شرفاء ومناضلون أفذاذ آمنوا بربهم فزادهم هدى، وبالوطن فزادهم تكريما وتشريفا وتقديرا وتوسيما، تجلى في انتخابهم بالإجماع أمناء على المسير والمسار، والحاضر والآتي. رجال يقظون يحملون هَمَّ وغبن شعب تكاثر واشتد إلى درجة الخناق: ظلم اقتصادي، وتفاوت طبقي اجتماعي ومجالي سافر، وعيش ناقص، وتعليم متذبذب فاشل، وساحات تغلي، وقمع طال كل من سولت له نفسه التزحزح أو عبر حرا عما يعانيه، وطالب بحقه المبدئي في العيش الكريم. وخلف اللافتات المعبرة بوجازة بليغة عن فلسفة الحزب ورأيه وموقفه مما يجري ويحدث نهاراً جهاراً، انتصبت صور المؤسسين المفكرين الاشتراكيين إِنْ حَمْلاً على التراث الإسلامي النيّر المشرق في شخص العلامة المستنير محمد بلعربي العلوي، وإنْ حملا على الحداثة والاختيار الثوري للقائد المعلم الشهيد المهدي بنبركة. اللافتات تجاهر بما سيؤول إليه مذهب وفكر ورأي وموقف الحزب حيال النهب المستشري، والقمع المنهجي، والاحتكار الفاضح، والتكالب على خيرات البلاد والعباد من قِبَلِ زمرة.. كمشة من الإقطاعيين، ” المعمرين الجدد” كما سماهم القائد المحنك، الكاتب الأول عبد الرحيم بوعبيد رجل الدولة بامتياز، المعمرين الجدد الذين يرفعون للاستغلال عنوانا، وللسيطرة على الأراضي الفلاحية الخصبة، عملا متقصدا وعدوانا. لكن، ماذا تقول اللافتات البليغة بلغتها التعبيرية الحادة الناخسة لخصر الاستغلاليين، الشوكية كالقتاد لجنب النائمين الغاطين الذين استمرأوا الغش والتدليس والسرقة، كأن الوطن نام واستنام واستكان لهم. كأنه أضحى بقرة حلوبا، وضَرْعا يشربون منه ليل نهار من دون انتهار أو وجل أو شرر مستطير يلوح في الأفق؟ تقول إحداها: ” الإرهاب لا يرهبنا، والقتل لا يفنينا، وقافلة التحرير تشق طريقها بإصرار “. وستقول أخرى بعد أشهر فقط في مؤتمر الشبيبة الاتحادية الأول الحافل: ” يقولون: إن الإسلام لم يأت بالاشتراكية، ونحن نقول: إنه لم يأت بالرأسمالية”.
ستجد هذه الشعارات ـ بطبيعة الحال ـ تحليلا وافيا، وبسطا ضافيا في التقرير المذهبي: طريق الحزب ومنارته، الذي تولى الشهيد القائد عمر بنجلون تلاوته أما جمع غفير، وحضور كثيف، وشباب كث، وعمال وفلاحين، وأطباء ومهندسين، ومحامين، ورجال ونساء تعليم، وممثلي أحزاب وطنية وعالمية، ونخب يعتز بها الوطن أيما اعتزاز. نخبٌ نيرة ومستنيرة، أذكر منها معتذرا لمن سقط سهوا من ذاكرتي: عبد الله العروي، محمد عابد الجابري، علي أومليل، الحبيب المالكي، فتح الله ولعلو، محمد نوبير الأموي، محمد وقيدي، سالم يفوت، محمد برادة، أحمد المجاطي، أحمد المديني، مصطفى القرشاوي، محمد الأشعري، ادريس لشكر، خالد عليوة، عبد الهادي خيرات، عبد الرحمن غندور، عبد الله بوشتاوي، وأخوات أخريات شريفات يعسر أن آتي على أسمائهن كلهن وقد فعل فيَّ النسيان ما فعل.
في المؤتمر المتوهج إياه، صودق على خارطة طريق الحزب الفكرية والسياسية والثقافية والإيديولوجية، والفلسفية، والاقتصادية تحت يافطة عريضة معبرة، ومُسَمّى مثيرٍ، هو: الاشتراكية العلمية، بما يعني أن السياسة كما الاقتصاد كما الاجتماع، كما الثقافة، كما التعليم، ستباشر ـ منذ الآن ـ وفق ذاك المنظور، وتُتَناولُ وتجري بحسب هذه الرؤية وهذا المقترب. وبما يعني أن الحزب أعلن جهارا نهاراً، عن تبنيه منهجية مخصوصة في التحليل الملموس للواقع الملموس، ومقاربة واضحة لمعالجة المشاكل واقتراح الحلول في مرآة الاشتراكية العلمية والاشتراكية الديمقراطية. وقد برهن ـ في الآن نفسه ـ دَفْعاً للريبة والتشكيك والتعريض، ودفعا للوسواس الخناس، عن تشبثه بمبادئ وقيم الحضارة الإسلامية في بعدها المشرق التقدمي العقلاني، لا الرجعي الرَّث، بما لا يتعارض مع مطامح الإنسان إلى الحرية والديمقراطية والمساواة، والعدالة الاجتماعية، والحق في الشغل و التعليم، والعيش الكريم. إنها الاشتراكية المنفتحة على ما هو أصيل وما هو حديث، التي سعى الحزب إلى تبنيها عن معرفة وتدارس واقتناع بعد نقاش ثقافي ديمقراطي عميق مديد ومسؤول. نقاش عرفته المَقَّارُ الحزبية في طول الوطن وعرضه، كما عرفتها أروقة وساحات وأحياء جامعية بكليات المغرب.
لقد استمر الشهيد عمر بنجلون وغيره من القياديين التاريخيين الكبار، يلحون على تحديد هوية الحزب الإيديولوجية من منطلق الحرص على الانحياز للجماهير الشعبية صاحبة المصلحة في التغيير، ومن منطلق فكرة أن الحزب امتداد لحركة التحرير الشعبية.
سيقول التقرير المذهبي / الإيديولوجي في مكان ما ـ تأكيدا لدَمَغْة الحزب الاشتركية، بالوضوح البيّن لا بالمرموز، في رده على النظام، والخصوم الطبقيين والكومبرادور، ووكلاء البورجوازية: ” إن القضية ليست قضية أصالة ومعاصرة، ولا قضية أفكار مستوردة ومصدرة، وإنما هي قضية الصراع بين إيديولوجية المستغلين، وبين إيديولوجية الكادحين في الداخل والخارج”.
أما القادة الذين طوقهم المؤتمر بمسؤولية قيادة سفينة الحزب في بحر لجي آنئذ، بحر كثير الهيجان ( لا ننسى أن العام هو 1975 من القرن المنصرم، شهد اغتيال الشهيد عمر بنجلون من طرف الإخوان المسلمين الذين سخَّروا من لا يعي ولا يسمع ولا يرى، جاهلا مأجورا ” نجح” في إسكات صوت نقي، صوت منحاز كليةً ونكران ذات، إلى المغبونين، ومعذبي الأرض: عمالا وفلاحين ومياومين ومهمشين، وموظفين صغارا. صوت قيادي سياسي ونقابي وإيديولوجي، وقومي عربي. فمن منا ينسى أو يتناسى توظيف قلمه في جريدة “المحرر” الغراء، وقبلها ” التحرير”، فضحا وكشفا وتعرية للسياسة اللاشعبية واللاديمقراطية، والتلاعب المخزي لإحدى النقابات الطليعية العمالية التي كان أحد كبار مؤسسيها ومناضليها، والتي حادت عن الصراط المستقيم، حادت عما أُحْدثت له، وأسست من أجله. فضلا عن انخراطه المشهود من خلال تسخير قلمه الصادق المبتلى بحب فلسطين، لشعب فلسطين، ولمنظمة التحرير الفلسطينية، واضعا اليد، بمهنية ومعرفة وعمق، على أحابيل ودسائس الصهيونية العالمية، وربيبتها إسرائيل المسنودة بدعم إمبريالي فاضح وأعمى. وهو في ذلك لم يكن بدعا، إنما كان صوتا عاليا لحزب آلَ على نفسه أن يخدم قضايا الوطن والمواطنين، أن يكون استمراراً ولسانا للقوات الشعبية، وأن يخدم ـ في الآن ذاته ـ قضية الأرض المحتلة والمسروقة، أرض فلسطين التاريخية. في المؤتمر المتوهج إياه، بقدر ما كان صوت القاعة يجلجل، ويقرع أجراس الإفاقة من وَهْمٍ غذّاه المستفيدون الريعيون، والعملاء الرجعيون، والأحزاب الإدارية المصنوعة، بقدر ما كان القائد الكبيرعبد الرحيم بوعبيد، يضع اليد باقتدار رجل حنكته السياسة والتسيير الإداري والديبلوماسي على أعلى مستوى، يضع اليد على الأعطاب والأعطال والعوائق التي جعلت البلاد تراوح المكان، بل وتتراجع متنكرة للآمال العراض، والأحلام الكبرى التي رافقت إعلان الاستقلال، يغتني فيها الأغنياء كل يوم، بينما يزداد الفقراء فقرا على فقر كل يوم أيضا. ويرسم ـ في التقرير السياسي ـ الذي تولى تقديمه، بهدوء الكبار، وبانفعال الغاضبين على وضع اقتصادي مُتردٍّ، وسياسي وتعليمي وثقافي يسوء وينتكس.
بالإمكان أن أسمي المؤتمر الاستثنائي، الذي قطع فيه الحزب مع التذبذب والتلكؤ، بالعرس المبهر متكامل الأركان، إذْ حسم الأمر في التسمية، فصار: الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية. اشتراكي ديمقراطي، واشتراكي علمي، في دخيلة أفكاره ورؤاه ومقرراته التي انكب عليها المؤتمرون والمؤتمرات خلال ثلاثة أيام 10 ـ 11 ـ 12 يناير 1975، مناقشين، محللين، مؤولين، ومتجادلين أحيانا بغضب ونرفزة، وأحيانا باتزان ورَويّة، يجمعهم حب الوطن أولا وأخيرا. وتجمعهم غيرتهم على حاضره، وتوقهم إلى أن يصبح وطن الجميع، لا وطن أقلية ناهبة ومنتهبة. وسِواءٌ تعلق الأمر بقضايا المرأة، أو التعليم والثقافة، أو الاقتصاد، أو الهوية الحزبية، أو النبش في التراث الإسلامي في بعض أوجهه المضيئة والمشرقة، ومداورة النقاش السياسي والإيديولوجي عميقا في خصوص الاشتراكية العلمية والاشتراكية الديمقراطية، والماركسية اللينينية، والليبرالية والرأسمالية المتوحشة، فقد كانت اللجان التنظيمية المتفرعة، مشمرةً معتكفة ليل نهار على قراءة ودراسة المقرات المختلفة، كأنها خلايا نحل يطن ويهمد، ويرتشف الرحيق حلوا ومرا، ليعطي في الأخير، رأيه، وموقفه، وتوافقه حول عديد المسائل والقضايا التي ستجد طريقا مبلورة منتظمة في البيان العام للمؤتمر.
كنا ـ أنا وثلة من أصدقائي الذين جاءوا ممثلين لفروعهم من مختلف المدن والقرى، أو الذين جاءوا ـ ممثلين للشبيبة الطلابية ـ نشعر في أعماقنا بأننا في عرس نضالي مشهود وغير مسبوق. عرس علمنا كيف يُبْنَى الفرح رويدا.. رويداً، إلى أن يزف العريسان أو العرسان إذا تعلق الأمر بأعراس كُثْرٍ. وكان الشاعر الكبير أحمد المجاطي يعلمنا كيف ننصت باهتمام، وكيف نتدخل، وكيف نضحك إذا خلط أحد المداخلين بين الطعام والصيام، بين الفجر وليالٍ عشر. فقد كان أستاذنا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس. كما كنا نفعل منتبهين منشرحين إلى الروائي والناقد الكبير محمد برادة، وإلى الشاعر الرائع عبد الرفيع جواهري، والروائي المتميز أحمد المديني، والراحل المثقف المتمكن مصطفى القرشاوي، والشاعر محمد الأشعري، والأصدقاء الأعزاء: عبد الرحمن غندور، وعبد الهادي خيرات، وأنور المرتجي.. إلخ.
فهل تذكر هذا أو أكثر منه، يا صديقي عبد الله بوشتاوي؟، وهل تذكر كيف أوقفتنا الفورْكُونيتْ ليلا ونحن نذرع شارع الرباط، متأبطين حزمة من المقررات، والتقارير الحزبية، وكتبا أدبية كنا اقتنيناها من مكتبة في الدار البيضاء، حيث ساقتنا إلى مخفر لها مركون في “باب الحد”، حُبِسْنا فيه حتى صباح الغد، فإلى سجن لعلو بالرباط، مدة ناهزت شهراً، كنا فيها رقمين. طُمِسَ اسمانا، ونودي علينا ـ عند المحاكمة ـ بهما، ونجحنا في إقناع رئيس الجلسة ببراءتنا بعد دفاعنا المستميت الذي نجحنا فيه بشهادة نزلاء السجن الآخرين، ولِمَ لا؟ ونحن مناضلان اتحاديان، وطالبان جامعيان شرسان. قفلنا راجعين إلى فاس، ومنها إلى وجدة بعد أن طار عقل الكثيرين وهم يبحثون عنا. لقد تم اعتراضنا ظلماً، ورُمِينا في السجن تحكما بعدما لفقت لنا تهمة توزيع المناشير السياسية التحريضية على جمهرة من الناس في الشارع العام، وقبالة محطة القطار بالمدينة.
تلك، إذن، ضريبة النضال، ونحن نفاخر بها.
الكاتب : محمد بودويك - بتاريخ : 17/10/2025