المسيرة الخضراء: حدث نضال وروح صمود
السفير محمد الاخصاصي
عندما يحتفل المغاربة سنوياً بملحمة «المسيرة الخضراء» التي شكلت حدثاً تاريخياً فريداً من نوعه، في سياق معركة وطنية خالدة لتحرير الصحراء المغربية، وانجاز الوحدة الترابية للمملكة، بعد احتلال استعماري جثم على أقاليمنا الجنوبية مدة إحدى وتسعين عاماً – إنما يُوَفُون بعهد الرجال والنساء الذين لبوا، بمئات الآلاف، نداء عاهل البلاد، جلالة المغفور له الحسن الثاني، قائد معركة التحرير والوحدة، فتدافعوا كالسيل المتدفق للانخراط في هذه «المسيرة» وهم يعلمون علم اليقين أنهم مُقْدِمُونَ على مواجهة وتحدي جيوش الاحتلال المدججة بالسلاح والعتاد، مسترخصين أرواحهم في سبيل التحرير والوحدة.
ويجدر بنا، ونحن نستحضر فصول هذا الحدث التاريخي العظيم أن نتأمل دروسه وعبره، وأن نستقرئ ديناميته ومفاعليه، وان نستشف دلالته ومغزاه…
أولاً: في الدروس المستخلصة:
عندما نتأمل بِأَناة ورَوِية السجل الحافل لـِ «المسيرة الخضراء» زخماً وتنظيماً ونتائج، فلا يَسَعُنَا إلا أن نستكنه ما ينطوي عليه من عبر ودروس، لا تنحصر مفاعيلها في إطارها الكرونولوجي الحافل وحسب، بل تمتد دروسها لتشمل ما أفضت إليه من تحولات سياسية واجتماعية وجيو-سياسية.
وفي هذا الاتجاه، فإننا نتوقف عند أربعة دروس، ما تزال مفاعيلها تؤطر مسيرة البلاد في مختلف حلقاتها، وتعدد مجالاتها، ورحابة آفاقها…
1 – الدرس الأول: أهمية ودور الوحدة الوطنية في كسر شوكة التحديات مهما تجاسرت، وكسب الرهانات مهما تعاظمت…
وفي هذا الصدد، فإن الانتصارات الباهرة التي حققتها بلادنا في مختلف معاركها، الوطنية الكبرى، التحريرية منها والنهضوية، قد تحققت بفضل ارتكازها على أرضية الوحدة الوطنية:
• فبفضل الوحدة الوطنية خلف العاهل المغربي انتصرت «ثورة الملك والشعب»، وعجلت باستقلال البلاد؛
• وبفضل الوحدة الوطنية حصل الزخم الشعبي العارم الذي جعل من «المسيرة الخضراء» نموذجاً فريداً في معارك التحرر الوطني، وأمثولة نادرة في إدارة معركة تحريرية باسلة، بأسلوب تحريري سلمي، لكنه حاسم.
وقد أفضت هذه المعركة التاريخية بأسلوبها وزخمها إلى إرغام الطرف المستعمر على الجنوح إلى التفاوض، ثم الإقرار بمغربية «الصحراء الغربية»(1).
• وبفضل الوحدة الوطنية، خلف جلالة الملك محمد السادس، انطلق المغرب في انجاز مشاريع تنموية كبرى، اجتماعية واقتصادية وهيكلية، في صدارتها مشروع «الجهوية المتقدمة» ومشروع «النموذج التنموي الجديد» ومشروع الحماية «الحماية الاجتماعية»، ومشروع تلقيح المغاربة كافة، في ظل جائحة كوفيد 19، وصولاً إلى تحقيق «المناعة الجماعية» وغيرها من المشاريع النهضوية الكبرى؛
• وأخيراً وليس آخراً، فبفضل الوحدة الوطنية أحبطت المملكة المغربية مناورات ودسائس خصوم وحدتنا الترابية على كافة الأصعدة السياسية والدبلوماسية والأمنية… ويشكل الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، وتواتر فتح قنصليات إفريقية وعربية وغربية بــــــــ«العيون» و«الداخلة»، وعملية تحرير معبر الكركرات من تسلل وعبث البوليساريو، واقتناع الأمم المتحدة (تقرير الأمين العام) و«مجلس الأمن الدولي» (القرار الجديد رقم 2602) بواقعية، وجدية ومصداقية الموقف المغربي من النزاع المفتعل – يشكل ذلك كله مؤشرات دالة على المكانة التي يحظى بها المغرب على الصعيدين الإقليمي والدولي، بفضل حالة الأمن والاستقرار التي ينعم بها في ظل وحدته الوطنية التي بات يحسد عليها.
2 – الدرس الثاني، وينصب على دور وحيوية وسمو القيادة الوطنية، والمواطنة والمناضلة التي يجسدها جلالة الملك، الساهرة على رعاية الوحدة الوطنية، وعلى قيادة الدولة بحكمة وتبصر، والصاغية على الدوام لنبض الشعب، الملتحمة دوما بمطامحه وتطلعاته، المنكبة ليل نهار على اطراد تقدمه وازدهاره ونهضته …
ولطالما تساءل البعض من المهتمين بالشأن المغربي عن سر ما يتمتع به المغرب من أمن واستقرار، وكأنه جزيرة تغمرها الوداعة والسكينة، في بحر متلاطم الأمواج…
لكن القليل من المتسائلين هم الذين استكنهوا السر المكنون لهذه المفارقة اللافتة بين «الجزيرة» الهادئة والبحر العاصف.
إنه التلاحم المكين بين الأمة والعرش، بين القيادة والقاعدة، تلاحم يستند إلى أرضية الوحدة الوطنية من جانب، والقيادة المواطنة التي تقود الشعب نحو آفاق التنمية والتقدم والازدهار، من جانب آخر.
3 – الدرس الثالث: نُضْجُ وفعالية الإطار الديمقراطي في ترجمة الإرادة الشعبية، عبر مؤسسات تمثيلية ديمقراطية، تساهم بحيوية ونجاعة في ترسيخ مبادئ الحرية والعدالة والمساواة كما كرسها دستور البلاد، وتمنح لـ «الخيار الديمقراطي»، الذي جعل منه الدستور «ثابتاً» راسخاً من ثوابت الأمة، ما يستحقه بل ما يتطلبه من جهد ومثابرة ونكران الذات، في أداء مهام المراقبة والتشريع والحكامة والمحاسبة، سواء على مستوى مؤسسات الديمقراطية التمثيلية أو على صعيد مكونات الديمقراطية التشاركية.
إن الجهل بهذه المقومات الجوهرية في النظام السياسي المغربي لدى الأوليجارشية الجزائرية، ليشكل أحد العوامل – إلى جانب أخرى – التي تفسر لؤمها ومكرها إزاء المغرب الجار وليس من الصدفة في شيء أن يتزامن تصعيد الأوليجارشية الجزائرية للتوتر غير المسبوق في المنطقة المغاربية، مع حالة الغليان الشعبي الذي يجتاح الجزائر في سياق مفاعيل الأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والنفسية المتراكمة.
ولقد ترجمت مظاهرات واحتجاجات «الحراك الشعبي» السلمي عمق وخطورة هذه الأزمات الخانقة التي لا حل لها – كما يؤكد «الحراك» – بدون تغيير ديمقراطي حقيقي، يمكن الشعب من المشاركة الفعلية في تقرير مصيره، وصيانة كرامته، وبإعادة الارتباط بمبادئ وقيم حركة التحرر الوطني الجزائرية التي جعلت من التضامن والتكافل المغاربي هدفاً استراتيجياً للجزائر المستقلة، كما هو هدف حيوي للأقطار المغاربية جمعاء.
4 – الدرس الرابع، وهو محصلة جدلية للدروس السابقة، ينصب على دينامية التماسك المجتمعي التي جعلت من الاجتماع البشري المغربي أمة متماسكة، دينياً، ومذهبياً، وثقافياً وأورمتياً.
وقد شاءت الأقدار الميمونة أن يحظى هذا البلد الأمين، في تاريخه الحديث والمعاصر بصفة خاصة، بوجود أمة متجانسة، تضرب جذورها في أعماق التاريخ، وبقيام دولة مُهَيْكَلَة، منظمة، تملك من التجاوب والقدرات ما تدفع به محاولات الغزو والتسلط الأجنبية، على امتداد شواطئها الأطلنتيكية والمتوسطية، بل وتتصدَّى للغزو الاستعماري في تخومها الشرقية دفاعاً عن حوزة الوطن من ناحية، وإيماناً بواجبات التضامن مع جيرتها الشرقية، من جانب آخر.
ولطالما تساءل البعض من المهتمين بقضايا الشأن المغاربي عن سر هذا التميز السياسي والنضالي الذي يتميز به المغرب الأقصى في مواقفه السياسية ومقارباته الدبلوماسية، ومناهجه النضالية، سواء بالنسبة لتلاحم الشعب و«السلطان» – سيدي محمد بن يوسف – في مقاومة الاستعمار، أو بالنسبة لمناهج الحركة الوطنية في النضال التحريري أو بالنسبة لطبيعة النهج التدرجي لاستعادة الوحدة الترابية للمملكة.
وفي هذا الاتجاه فقد جسدت «المسيرة الخضراء» التي صاغ مشروعها جلالة المغفور له الحسن الثاني طيب الله ثراه، فسهر شخصياً، على بلورة تصورها بدقة متناهية، ورسم مجرياتها بتفاصيل ملهمة، وحَدّدَ أفقها برؤية بعيدة، وتبصر حكيم – لقد شكلت هذه المسيرة التاريخية أداة ناجعة لتعزيز وتوطيد التماسك المجتمعي، حيث جمعت ساكنة الحواضر والبوادي، وعبأت مغاربة الجهات، شمالا وجنوبا، شرقاً وغرباً، واستدمجت مختلف المكونات الثقافية المغربية، عرباً وأمازيغ، ومختلف الفئات الاجتماعية التي ازدادت تفاعلا والتحاماً، فانصهر الجميع في بوتقة معركة التحرير والوحدة.
فاندفع الجميع كالسيل الهادر في الصحراء الْبَلْقَعِ، متحدين بقوة الإيمان، وصلابة الإرادة، والاستعداد للتضحية والشهادة، جيشا استعماريا عرمرم، لا يحملون في أيديهم سلاحاً سوى كتاب الله والعلم الوطني، وهو لعمري سلاح أمضى وأقوى من سلاح البندقية والديانة.
وبذلك وغيره كانت «المسيرة الخضراء» وستظل ملحمة وطنية مديدة الأصداء، قوية الدلالة، تحتل مكاناً راسخا في الذاكرة الوطنية وفي المخيال المغاربي والعربي والإفريقي والدولي.
ثانياً: الديناميات المسترسلة لـ «المسيرة الخضراء»:
1. في الوقت الذي كان فيه جلالة المغفور له، الحسن الثاني، يُعِدُ العُدة لإطلاق «المسيرة الخضراء» كانت الأوليجارشية الجزائرية تمارس ضغوطاً قوية على إسبانيا للاعتراف بها طرفاً معنياً باسترجاع الصحراء، وفي نفس الوقت تهدد قيادة موريتانيا، حليفة المغرب – آنئذ- في عملية نزع استعمار الصحراء المغربية، بتدخل عسكري «حاسم» في موريتانيا للإطاحة بها(1)؛
2. بيد أن انطلاق «المسيرة الخضراء» بزخم جماهيرها، وشدة حماستها وجسارة أبطالها، أَرْعَبَت دولة الاحتلال، وعجلت بانصياعها إلى نهج التفاوض، ثم القبول بتوقيع «اتفاقية مدريد» التي بمقتضاها استرجع المغرب أقاليمه الصحراوية.
وكما هو معلوم فقد عبأت هذه المعركة السلمية النموذجية مئات الآلاف من المتطوعين والمتطوعات المغاربة الذين تمكنوا من المشاركة في «المسيرة» بحماس منقطع النظير(2)؛
3. وقد تجدرت روح «المسيرة الخضراء» في وعي ووجدان الشعب المغربي، وأضَحت ذكراها تُغدي إرادة الصمود والتصدي لشتى المحاولات اليائسة التي ما انفكت الأوليجارشية الجزائرية تحيكها للمساس بوحدة بلادنا الترابية.
فلا تجنيدَ لمئات من الشباب الواهم، تحت لافتة «حركة تحرير الصحراء الغربية» البوليساريو، ولا فبركة واصطناع «جمهورية» وهمية مزعومة ولا تبديد أموال طائلة، على مدى أربعة عقود، لشراء ضمائر، وإرشاء منظمات من أجل الترويج لأكذوبة اتضح أمرها منذ انتهاء حقبة «الحرب الباردة» فلا ذلك ولا ذاك نَالَ من قوة صمود المغرب، ولا من صلابة وحدته في الدفاع عن وحدته الترابية ..
ومما لا شك فيه، فإن روح «المسيرة الخضراء» المتجدرة في أعماق الشعب ظلت وتظل متوتبة، متحفزة، لإحباط كل ما يأتيه خصوم وحدتنا الترابية من دسائس، ومناورات، «ويمكرون ويمكر لله ولله خير الماكرين … » صدق لله العظيم؛
4. إن تزامن وترابط ملحمة «المسيرة الخضراء» مع انطلاق المسلسل الديمقراطي الرصين (1976) الذي أوصل بلادنا – عبر مسار زمني طويل (1975-2021) – إلى ما نحن عليه اليوم من تفاعل سياسي، وتناغم مؤسساتي بين مكونات الحقل السياسي الوطني: الدولة الوطنية القوية من جهة، والقوى السياسية الفاعلة، أغلبية ومعارضة، من جهة أخرى – إنما … بأهمية النقلة النوعية التي حصلت في المجال السياسي والمؤسساتي، وبحيوية المكتسبات في ميدان التنمية والبناء والتشييد …؛
5. وتشهد الذكرى السادسة والأربعين ل«المسيرة الخضراء» دينامية متعاظمة في سياق الطفرة النوعية التي تعيشها أقاليمنا الجنوبية المسترجعة والتي جعلت من هذه الأقاليم قطباً تنموياً، عمرانياً جاذباً، وفضاءً حيوياً لافتاً، على الصعيدين القاري والدولي. وذلك بفضل «النموذج التنموي الجديد» الذي أطلق مشروعه جلالة الملك لفائدة هذه الأقاليم المحررة.
وفي الحقيقة، فإن هذه الطفرة التنموية الكبرى بالصحراء المغربية تشكل مسيرة أخرى، اقتصادية واجتماعية وثقافية وبيئية وصحية… باتت تعزز المكاسب السياسية والجيو-سياسية التي تحققت بفضل لله والملك والشعب، في ظل الوحدة الوطنية الراسخة، والقيادة السياسية الحكيمة، والإطار الديمقراطي الناضج، والتماسك المجتمعي المتين، والتعبئة الشعبية المستدامة…
وذلك ما يجعل من «المسيرة الخضراء» حدثاً تاريخياً عظيماً على الصعيد الدولي ويمنحها مكاناً راسخاً، مرموقاً في سجل الذاكرة الوطنية الحية.