المغرب بين الدولة الاجتماعية وإكراهات النيو ليبرالية: تفكيك الحقوق لصالح السوق

  محمد السوعلي (*)

 

في ظل التحولات الاقتصادية العالمية، تسعى العديد من الدول إلى إرساء نموذج الدولة الاجتماعية لضمان العدالة وتوفير الحقوق الأساسية للمواطنين، لا سيما في مجالات الصحة، التعليم، السكن، الشغل، والحماية الاجتماعية. غير أن تجسيد هذا النموذج يختلف باختلاف الإمكانات الاقتصادية والتوجهات السياسية لكل دولة. في هذا السياق، تبرز تجربتان متباينتان: المغرب، الذي يحاول بناء دولة اجتماعية ضمن إطار اقتصاد ليبرالي متنامٍ، وإسبانيا، التي اعتمدت نموذجًا اشتراكيًا ديمقراطيًا يقوم على إعادة توزيع الثروة والحكامة الفعالة. فهل يمكن تحقيق دولة اجتماعية عادلة في ظل اقتصاد ليبرالي قائم على آليات السوق الحرة؟ أم أن تحقيق العدالة يتطلب تدخلًا أوسع للدولة عبر سياسات تستند إلى إعادة توزيع الثروة وتوجيه الاقتصاد نحو خدمة المصالح الاجتماعية؟
من المؤكد، أن العالم اليوم يعيش على وقع تناقض واضح بين مفهوم «الدولة الاجتماعية» كإطار مثالي، والواقع العملي الذي تعرقله التحديات الاقتصادية والاختيارات السياسية. فبينما تؤكد الأدبيات الأكاديمية على أن الدولة الاجتماعية تضمن حقوق المواطنين في مجالات أساسية مثل الصحة والتعليم والسكن والشغل والحماية الاجتماعية، فإن تطبيقاتها تختلف من بلد إلى آخر. في المغرب، كدولة نامية، يمثل تنفيذ هذه المبادئ الدستورية تحديًا مستمرًا، بفعل إرث تاريخي معقد، وبنية اقتصادية تعتمد على قطاعات غير مستقرة، ومحدودية الموارد المالية.
أما في إسبانيا، فقد ساعد الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية الاجتماعية على بناء نموذج أكثر تقدمًا، يعتمد على نظام ضرائب تصاعدي وخدمات اجتماعية شاملة، لكنه لا يزال يواجه أزمات اقتصادية متكررة تعد بمثابة اختبار لمتانة هذا النموذج.
في كلتا الحالتين، لا يمكننا إلا أن نتساءل إن كان في إمكان السياسات الاجتماعية لوحدها أن تقلص الفوارق الطبقية دون إصلاحات بنيوية على مستوى النظام الضريبي والسياسات الاقتصادية، وإلى أي مدى يمكن للدولة أن توازن بين تمويل الخدمات الاجتماعية وجذب الاستثمار دون التضحية بأحد الجانبين، علما أن السؤال الجوهري والمؤرق ربما هو المتعلق بمدى قدرة الأنظمة الليبرالية، التي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالسوق الحرة والرأسمال العالمي، على تحقيق العدالة الاجتماعية، أم أن تحقيق هذه العدالة يستدعي تبني نموذج اشتراكي ديمقراطي يجعل من العدالة الاجتماعية جوهر وجوده.
بالعودة للتاريخ، يبدو أن الدولة الاجتماعية الحقيقية تتطلب إعادة ترتيب الأولويات: فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبرى، تأميم القطاعات الإستراتيجية مثل الصحة والطاقة والنقل، وإعادة توجيه الدعم نحو تعزيز الإنتاج المحلي بدلًا من الاعتماد على استيراد السلع الفاخرة. لكن هل يمكن تحقيق هذه الإصلاحات في ظل أنظمة اقتصادية تفضل تحرير الأسواق على التدخل الحكومي؟ وكيف يمكن تجنب وقوع الدولة الاجتماعية في أزمات مالية تؤدي إلى انهيارها، كما حدث في بعض الدول الأوروبية بعد الأزمات الاقتصادية العالمية؟
إن بناء دولة اجتماعية عادلة ومستدامة ليس مجرد مسألة موارد مالية، بل يرتبط أيضًا بإرادة سياسية قادرة على مواجهة تحالفات المال والسلطة، وتحديد أولويات تخدم الفئات الهشة قبل النخب الاقتصادية. فهل يمكن تحقيق توازن بين حماية الفئات الأكثر ضعفًا وتعزيز النمو الاقتصادي دون أن يؤدي ذلك إلى إضعاف أحدهما لصالح الآخر؟ وهل تمثل الاختيارات الليبيرالية عقبة أمام بناء دولة اجتماعية، أم أنها يمكن أن تكون أداة لتعزيز الفعالية الاقتصادية إذا تم تنظيمها بشكل جيد؟ وكيف يمكن تفادي الوقوع في سياسات شعبوية تعد بتحقيق العدالة الاجتماعية دون وجود خطة اقتصادية مستدامة تدعم هذه الأهداف؟
هذه الأسئلة تظل مفتوحة للنقاش، وهي جوهر أي محاولة لفهم ما إذا كانت الدولة الاجتماعية قابلة للتحقيق في ظل اقتصاد ليبرالي تتداخل فيه المصالح المالية والسياسية، وتختلط فيه السلطة بالمال أم أنها ستظل مجرد فكرة مثالية يصعب تجسيدها على أرض الواقع.

يعيش العالم اليوم على وقع تناقض واضح بين مفهوم «الدولة الاجتماعية» كإطار مثالي، والواقع العملي الذي تعرقله التحديات الاقتصادية والاختيارات السياسية. وفقًا للأدبيات الأكاديمية، تقوم الدولة الاجتماعية، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، على ضمان حقوق المواطنين في مجالات الصحة، التعليم، السكن، والشغل، والحماية الاجتماعية، إلا أن تنفيذ هذه المبادئ يختلف من بلد إلى آخر.
في المغرب، الذي يشهد معدلات بطالة مرتفعة تصل إلى 13% وفق تقرير المندوبية السامية للتخطيط لعام 2023، يُعد تنفيذ هذه المبادئ الدستورية تحديًا مستمرًا بفعل إرث تاريخي معقد، وبنية اقتصادية تعتمد على قطاعات غير مستقرة مثل الفلاحة والزراعة، ومحدودية الموارد المالية المخصصة للقطاعات الاجتماعية. أما في إسبانيا، فقد ساعد الانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية الاجتماعية على بناء نموذج أكثر تقدمًا، يعتمد على نظام ضرائب تصاعدي وخدمات اجتماعية شاملة، رغم الأزمات الاقتصادية المتكررة التي اختبرت متانة هذا النموذج.

المغرب: تحديات النهج الليبرالي

تبنّي المغرب لسياسات اقتصادية ليبرالية، مع التركيز على تحرير السوق وتقليص دور الدولة، عزز من نمو القطاع الخاص لكنه فاقم التفاوتات الاجتماعية. في قطاع الصحة، لا يتجاوز الإنفاق الحكومي 5.2% من الناتج المحلي الإجمالي، مما يترك 40% من السكان دون تغطية صحية، وفق تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2023. وفي قطاع التعليم، رغم ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس، إلا أن تقرير البنك الدولي لعام 2022 يشير إلى أن 70% من التلاميذ المغاربة لا يستطيعون قراءة جملة بسيطة بحلول الصف السادس، مما يعكس أزمة جودة التعليم العمومي وغياب مواءمته مع سوق العمل.
إضافة إلى ذلك، أدت السياسات التقشفية، مثل رفع الدعم عن المحروقات بنسبة 20% في 2023، إلى ارتفاع الأسعار وزيادة نسبة الفقر إلى 34%، وفق المندوبية السامية للتخطيط. كما بلغت البطالة بين حاملي الشهادات 38%، فيما تعيش 60% من الأسر المغربية في هشاشة اقتصادية، حيث تنفق 42% من دخلها على الغذاء فقط، مما يعكس ضعف الحماية الاجتماعية واستمرار الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
إسبانيا: نجاح النموذج الاشتراكي في تعزيز العدالة
على النقيض، نجحت إسبانيا في بناء دولة رفاه عبر سياسات اشتراكية ديمقراطية تعتمد على تدخل الدولة وإعادة توزيع الثروة. في قطاع الصحة، يتمتع 95% من السكان بتغطية مجانية، ويبلغ الإنفاق الصحي 8.7% من الناتج المحلي، مما ساهم في رفع متوسط العمر المتوقع إلى 83 عامًا، وفق بيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2023. أما في قطاع التعليم، فالتعليم مجاني حتى الجامعة، مع مناهج مرتبطة باحتياجات سوق العمل، مما قلل الفجوة بين التكوين الأكاديمي ومتطلبات التشغيل.
اعتمدت إسبانيا أيضًا على ضرائب تصاعدية تصل إلى 45% على أصحاب الدخل المرتفع، وبرامج مثل «الدخل الأدنى الحيوي»، الذي خفض معدل الفقر بنسبة 30% خلال عقد من الزمان وفقًا لمعهد الإحصاء الإسباني. ورغم التحديات الاقتصادية، مثل بطالة الشباب التي تصل إلى 26%، فإن نظام الإعانات الاجتماعية وبرامج التشغيل خففا من آثار الأزمات.

نحو نموذج مستدام للدولة الاجتماعية في المغرب

لتحقيق عدالة اجتماعية حقيقية، يحتاج المغرب إلى إصلاح جذري للنظام الضريبي عبر فرض ضرائب تصاعدية على الثروات الكبرى بدلًا من الاعتماد على الضرائب غير المباشرة، التي تمثل 48% من الإيرادات الضريبية وفق تقرير وزارة الاقتصاد والمالية لعام 2023، مما يثقل كاهل الطبقات المتوسطة والفقيرة.
كما يجب تعزيز الاستثمار في الصحة والتعليم، حيث لا يتجاوز الإنفاق العمومي عليهما 5.2% و3.8% من الناتج المحلي، مما يؤدي إلى تدهور جودة الخدمات خاصة في المناطق المهمشة. ومن الضروري أيضًا تبني برامج دعم مباشر للفئات الهشة، على غرار النموذج الإسباني الذي يعتمد «الدخل الأدنى الحيوي»، والذي يمكن أن يقلل من معدلات الفقر ويدعم الاستقرار الاجتماعي.
إضافة إلى ذلك، فإن تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص يمكن أن يوفر نموذجًا أكثر كفاءة لإدارة الموارد، خاصة في مجالات الطاقات المتجددة، حيث يمتلك المغرب إمكانيات هائلة في الطاقة الشمسية يمكن استغلالها لخلق فرص عمل وتعزيز التنمية المستدامة.
نحو دولة اجتماعية أكثر عدالة واستدامة في المغرب
تكشف المقارنة بين المغرب وإسبانيا أن تحقيق الدولة الاجتماعية ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب إرادة سياسية لفك التناقض بين الخطاب الدستوري والواقع الاقتصادي. فبينما تظهر إسبانيا أن النموذج الاشتراكي الديمقراطي قادر على تحقيق التوازن بين النمو والعدالة، يواجه المغرب تحديًا مزدوجًا: إصلاح النظام الضريبي، ووقف سياسات الخوصصة الجائرة، خصوصا في القطاعات الاجتماعية، وإعادة توجيه الاقتصاد نحو أولويات اجتماعية. السؤال المركزي يبقى: هل يمكن كسر هيمنة النيو ليبرالية لصالح نموذج تنموي يضع الإنسان في القلب، أم ستظل العدالة الاجتماعية مجرد شعار في ظل هيمنة النخب الاقتصادية؟
في نهاية المطاف، يبقى نجاح الدولة الاجتماعية في المغرب مرهونًا بقدرة الحكومة على خلق توازن بين التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وبين تشجيع الاستثمار وضمان حقوق المواطن. فالتحدي الأكبر لا يكمن في نقص الموارد، بل في كيفية إدارتها بشكل عادل وفعال، وفي الإرادة السياسية لتحويل العدالة الاجتماعية من رؤية على الورق إلى واقع يلمسه كل مواطن.
في ظل الحكومة الحالية، لم تعد السلطة التنفيذية مقيدة بحدودها التقليدية، بل توسعت لتصبح المتحكم الرئيسي في المشهد السياسي، دون حاجة إلى معارضة حقيقية، بعدما صنعت لنفسها أصواتًا تعارضها بقدر محسوب. أما البرلمان، فيتأكد يوما بعد يوم أنه فقد دوره الرقابي، حيث باتت الحكومة هي من تراقب المؤسسات التي يُفترض أن يراقبها البرلمان، مما أدى إلى سيطرة مطلقة على مفاصل الدولة. المؤسسات المكلفة بالحكامة أضحت تعمل وفق توجهات السلطة، والتقارير التي تكشف الواقع الاقتصادي والاجتماعي أصبحت غير مرغوب فيها، حفاظًا على صورة رسمية تعكس التفوق والنجاح بدلًا من الاعتراف بالأزمات ومعالجتها.
التعامل مع القضايا الجوهرية مثل البطالة والفساد أصبح محفوفًا بالمحظورات، حيث تم تحويل مسار النقاشات نحو مواضيع أخرى تخدم سردية الحكومة. بدلًا من مواجهة المشاكل الاقتصادية بإصلاحات حقيقية، اعتبرت الحكومة أن الإضراب هو العائق الرئيسي أمام الاستثمار، متجاهلة أن غياب النزاهة والشفافية هو ما يعوق التنمية. حتى الخطاب الديني لم يسلم من التوظيف السياسي، إذ تحولت بعض المنابر إلى منصات لتبرير السياسات الحكومية، بينما أصبح كل من ينتقد الأداء العام متهمًا بزعزعة الاستقرار.
داخل البرلمان، المفترض أن يكون فضاءً للحوار والتعددية، لم يعد هناك مجال لنقاش حقيقي، حيث يتم تصنيف أي رأي معارض ضمن خانة العرقلة أو التشويش أو حتى الخيانة، مما يعكس نهجًا قمعيًا يقلل من أهمية التعددية السياسية وحق المواطنين في معرفة الحقائق. علاوة على ذلك،لا تكتفي الحكومة بإغلاق أبواب الحوار، بل تسعى أيضًا إلى تقويض وسائل الاحتجاج المشروعة، وعلى رأسها الإضراب، حيث تعمل على تعديل القوانين المؤطرة له بما يجرده من قيمته كأداة للدفاع عن الحقوق العمالية، ليصبح مجرد نص قانوني يقيد الحريات بدلًا من أن يحميها.
على المستوى الاقتصادي، تستمر الحكومة في تقديم تبريرات غريبة للأزمات، فتراجع الإنتاج وارتفاع الأسعار لا يعودان إلى سوء التدبير أو غياب السياسات الفعالة، بل إلى عوامل طبيعية، حيث يُعزى نقص الأسماك إلى «مزاج البحر»، وارتفاع أسعار المواشي إلى «تغيرات طبيعية»، رغم أن الأسواق والمربين يؤكدون العكس. هذه المراوغات تؤدي إلى تعميق الفجوة بين الخطاب الرسمي وواقع المواطنين الذين يواجهون يوميًا تحديات اقتصادية متزايدة.
تبدو هذه الحكومة، المؤلفة من ثلاثة أحزاب، غير متجانسة في رؤاها، إذ تتبادل الأدوار بين تقديم التبريرات وإلقاء اللوم، سواء على بعضها البعض أو على المواطنين أنفسهم. هؤلاء المواطنون، الذين منحوا ثقتهم للحكومة على أمل تحسين أوضاعهم، يجدون أنفسهم مستبعدين من دائرة القرار، في ظل غياب آليات حقيقية للمحاسبة وسياسات لا تعكس أولوياتهم. هذا الواقع أدى إلى تعميق فقدان الثقة في المؤسسات، ودفع الفريق الاشتراكي – المعارضة الاتحادية – إلى تفعيل آلية ملتمس الرقابة، في خطوة سياسية قوية تهدف إلى توجيه رسالة واضحة للأغلبية الحكومية.
الواقع الحالي يتناقض مع متطلبات الدولة الاجتماعية التي تقوم على العدالة الاجتماعية وضمان الحقوق الأساسية وحماية الفئات الهشة. لتحقيق هذا النموذج، من الضروري تعزيز الحكامة والشفافية لضمان توجيه الدعم إلى مستحقيه والحد من الفساد المالي والإداري، وهو ما يتطلب آليات رقابية فعالة تعيد الثقة إلى المواطنين. إصلاح النظام الضريبي يعد بدوره ضرورة ملحة، حيث ينبغي التوجه نحو ضرائب تصاعدية على الشركات الكبرى وأصحاب الثروات بدلًا من إثقال كاهل الطبقة المتوسطة بالضرائب غير المباشرة. هذا الإصلاح يمكن أن يتيح موارد مالية إضافية لتمويل القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم، اللذان يعانيان من ضعف الإنفاق، مما ينعكس على جودة الخدمات المقدمة للمواطنين.
تحقيق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي يستوجب أيضًا إصلاح سوق الشغل عبر الحد من هشاشة العقود وضمان حقوق العمال، مع تعزيز سياسات تشغيل نشطة تضمن إدماج الشباب وتوفر فرص عمل مستدامة. إلى جانب ذلك، فإن تطوير شراكات دولية فعالة يمكن أن يساهم في الاستفادة من تجارب دولية ناجحة، سواء في مجال الحكامة والتدبير أو الإصلاحات الضريبية أو التنمية الاجتماعية، مما من شأنه أن يساعد في تبني سياسات أكثر كفاءة تتلاءم مع الواقع المغربي وتسهم في تحقيق تنمية حقيقية تعود بالنفع على الجميع.
(*) عضو اللجنة الوطنية للتحكيم وا
لأخلاقيات بالحزب Bas du formulaire

 

الكاتب :   محمد السوعلي (*) - بتاريخ : 20/02/2025