الوباء في رواية كامي

  مصطفى خُلَالْ

حين حط وباء كورونا فايروس في الأرض، ووصل بلادي وتعبأت السلطات العلمية والصحية والسياسية لمقاومته، فكرت في الأديب والفيلسوف الجزائري – الفرنسي، ألبير كامي، وفي روايته الشهيرة (الطاعون). فانكببت أعيد قراءتها. ولم تكن هذه الرواية عادية في علاقة جيلي بها، فقد كانت واحدة من الأعمال الروائية التي تضمنها المقرر المدرسي في السلكيين معا، سلك الكوليج كما كان يسمى في زماننا، وفي سلك الليسي أيضا وعلى نحو أكثر تفصيلا.
ومما أذكره أن أساتذتنا الأجلاء الذين دَرسُوها معنا، أفاضوا في الشروح والتحاليل الأدبية على نحو شد انتباه جميع التلاميذ في ذلك الوقت الذي كان فيه الكتاب رفيقا أعز. ومما سيزيد هذه الرواية في أيام تلمذتنا قوة حضورا، أن أساتذة الفلسفة أيضا تطارحوها معنا في حصة الفلسفة لا كنص محض أدبي، بل كنص ذي خلفية فلسفية وجودية. ذلك ان ألبير كامي كان من ذوي الاتجاه الوجودي الذي تعبر عنه أكثر ما تعبر روايته الشهيرة: (الغريب)…
ولم يفاجئني أني لم أكن الوحيد، فمعظم معارفي وأصدقائي الذين تبادلت معهم الاتصالات الهاتفية أخبروني أنهم بصدد إعادة قراءة ذات الرواية، رواية (الطاعون) بنفس المناسبة، مناسبة اكتساح كورونا فايروس الأرض. ثم ، وبعد بضعة أسابيع من تمكن الجائحة، أوردت جرائد فرنسية خبر نزول طبعة أولى تلتها طبعات عديدة.
فالرواية تعكس الصدى القوي للجائحة، جائحة الطاعون، زمان ألبير كامي. وتحكي فصولها بداية المرض باصطدام الدكتور ريوه، بفأر ميت على عتبة شقته، غير أن حارس العمارة كان حاسما ونهائيا بقوله إنه لا وجود مطلقا لأي فأر في العمارة. وأضاف أن ما يقال ليس سوى مقلب. يتوجه الطبيب إلى مركز مدينة وهران ليقف على أحوال العديد من المرضى. وكلما تقدم في الأحياء لزيارة مرضاه، كلما ارتفع عدد الفئران الحية والميتة في الأزقة والمنعطفات داخل الأحياء السكنية. في الغد ستتساءل زوجة الدكتور ريوه، في حيرة مقلقة بخصوص حكاية الفئران هاته، كي يجيبها زوجها أنه لا يعرف شيئا وأن الأمر كما تقول هي، محير للغاية، لكنه أمر سيمر كما هي العادة دائما. أما الحارس فقد أقسم بأغلظ الأيمان أنه سيضاعف من يقظته حتى يضبطهم متلبسين هؤلاء الذين يضعون فئرانا ميتة في الممرات، مستهزئين بالساكنة. وبعد وقت لن يطول سيجد ذات الحارس نفسه الضحية رقم صفر لوباء الطاعون، الذي لن يلبث أن يجمد الحياة كلها في المدينة ويخنق حياة البشر فيها خنقا…كي تبدأ معركة مقاومة للوباء وجودية، لكنها معركة ستتأخر كثيرا بسبب تردد السلطات في النظر إلى الحقيقة كما هي، والواقع كما هو. والدكتور ريوه هنا يمثل السلطة الصحية، والحارس يمثل السلطة الأمنية، والزوجة تمثل حيرة الناس ودوختهم أمام شيء هو من الغرابة بحيث يشوش الذهن، ويعيق الفهم. فأمام المصيبة وجبروتها، والشر القدري وطغيانه، كان النفي، واحتقار الخبر ورواجه، والخوف الذي سرعان ما تحول إلى رهاب مرعب، والفرار إلى الأمام بتقديم التفاسير تلو التفاسير وكلها خارح مدار الحقيقة لا تعي غربتها عن الواقع الفعلي. ولكن كان أيضا الالتزام والانخراط في المواجهة، وهما ما يشخصه في الرواية الدكتور ريو. فالمرض بدأ اكتساحه بطيئا. لا خطر حقا لا خطر. كل شيء عاد. بعض المرضى، بعض الموتى، ولا شيء يدعو للتأثير على الحياة الاعتيادية، بل لا شيء يُشْعِرُ أيا كان بأن الأمر يعنيه في شيء، ثم يبدأ عدد الضحايا في التصاعد. آنئذ بدأ بعض الاهتمام يلفت النظر، أصبح الوعي يتعمق أكثر. حقا، إنه مرض قاتل. إنه شر، إنه مصيبة عظمى. لقد أخذت السلطات التي أُخِذَت على حين غرة، تقيس المصيبة، في تردد، ثم في حيرة، ثم في حزم كي تعلن قرار الحجر الجماعي، المعمم، ثم قرار العزل للمصابين، وفتح ممرات جديدة لاستقبال المرضى بالطاعون، هكذا انقلب المعتاد انقلابا، وتصاعدت الأرقام بشكل مهول، فانهارت الفكرة المحزنة والقائلة إن ذلك لا يحدث إلا للأغيار. امتلأت المستشفيات وفاضت وأصيبت إمكانياتها بعجز مخيف، وأصبح عدد الموتى مرعبا وأضحى الدفن كما لو كان عملا سريا، وأنهك الجسم المعالِج إنهاكا مقلقا.
لكن هذا الجسم تآلف مع العجز، مع الموت. وفي هذا الاختبار، بدا البعض أنانيين يعملون على خرق الحجر الصحي أو يتدبرون أمورهم كي يجنوا أرباحا من الوضع البيئي. لكن بعضا آخر أجهدوا أنفسهم وقاموا بالمستحيل من أجل المساعدة أو التطوع، واضعين أنفسهم تحت إمرة الجماعة البشرية، فالمرض مس الجميع، ثم فجأة وقعت المعجزة كي ينسحب الوباء بالتدريج ثم يختفي نهائيا، لكن الألم والحزن باقيان، إذ هناك ما قبل الجائحة وما بعدها. صار يُؤَرًخ بحدوثها، لكن البشر، وبالطبع، ركزوا على ألما- بعد وليس على ألما- قبل، لأن الحياة هي الأقوى.
والحق أن هذه ليست سوى قراءة من بين قراءات متعددة لرواية (الطاعون). فالرواية صدرت كما هو معلوم في العام 1947بباريز، أي سنتين فقط بعد نهاية الحرب العالمية الثانية. والعام 1947 كانت سنة النشر لا سنة كتابتها، ويجمع النقاد، وخاصة الفلاسفة منهم، أن ألبير كامي أرادها كذلك، أي رواية – مسرحية – شهادة – ضد شر النازية المقيتة التي هي الطاعون في الرواية.
لقد بدأ ما – بعد كورونا ينجلي في الأفق القريب، غير أن هناك إشكالا كبيرا تقاسيه الأرض، وهو ضعف التضامن مع البلدان الفقيرة من قبل الدول الغنية كما من قبل الأثرياء المحسنين. وهو إشكال له حل في كرم هؤلاء وأولئك، ليس منة بل واجبا إنسانيا يفرضه اقتسام الحياة على الأرض.

الكاتب :   مصطفى خُلَالْ - بتاريخ : 18/01/2022

التعليقات مغلقة.