انطباعات عائد من معرض الكتاب بالرّياض

أحمد المديني

1
تحمل الأمم جميعُها الاعتبار والإجلال للكتاب، تَعدُّه مخزَنَ معارفها ووعاءَ خِبْراتها وتجاربها، وإليه تعود تستفتيه في شؤون أديانها وطقوسها ومعضلات عيشها. هو عندنا نحن العرب هذا وأكثر، نُضفي عليه القداسة ونأخذه بتبجيل، وقرآن المسلمين لا يمسّه إلا المطهرون، ويدعو آمرا إلى القراءة، إلى الكتاب المبين، البيان هنا فنون وألوان، من معانيه الإبانة والتعبير بفصاحة القلم واللسان، والإظهار بجودة وإتقان، وفي الأزمنة القديمة كان الحكام وعِليةُ القوم يذخرونه ادّخار النفائس، ويبحثون عنه في أقصي الأرض، والعلماء يقضون الأعمار لبلوغه في أصله والجلوس إلى مشايخه لا يكتفون بالسماع ولَمِّ النُّتف شأنَ كثيرٍ هذه الأيام، ويتكبدون الجهدَ لوضعه أشقّ من الحامل في خشية وخشوع.
2
هذا هو إحساسي الأول كلما ولجت مكتبةً أو زرتُ وإما دُعيت إلى معرض للكتاب، أتهيأ للذهاب كمؤمن سيغشى مسجدا لصلاة بصفاء روح ونفس رضيّة، وأستعد وقتا وقيافةً ورخاءَ بال. في بدايات تعليمنا بالإعدادي والثانوي لم نكن على صلة وطيدة بالكتاب، لنقص توجيه وقلة ذات يد، وفي الجامعة يا ما اقتطعنا من منحتنا لنتخطف الكتب والمجلات، عوّضْنا بها خصاصا وغذّينا منها عقلا يتكون، وما عرفنا يوما معرضا للكتاب عدا ما هو متوفر في خزانات مسوّرة وأسواق خلفية يرتادها المهووسون بالقراءة، أحمده كنتُ منهم. أمَا وقد أصبحت من زمرة الكتاب بما تيسّر فقد غدا الأمر عندي جدا في جد، عرسا وامتحانا ورهانا ونزهةً أيضا في بستان المعرفة والإبداع، وفرصةً نادرة للقاء جمهرة القراء.
3
ثم، سواء في بلادي، أو في أرض الله الواسعة، بتُّ على مرِّ الأعوام أنظر إلى مناسبات تسويق الكتب ومضمار حضور المؤلفين والجمهور المتعطش للقراءة أو الزائر الفضولي، نظرة توقير واعتبار، دليل تحضّر ورفعةً للشعب يسعى لتلبية حاجات غير شهوة البطن ودواعي الاستهلاك الغالبة، وطيلة سنوات إقامتي الفرنسية ما انفكت هذه الرؤية تتعزز مع اختلاطي بالأوساط الجامعية والطلاب، وعيشي وسط شعب لا يوجد بيت فيه خالٍ من رف كتب، وأنت تمر ترفع بصرك إلى النوافذ لتقع مباشرة على رفوف متزاحمة لا بد فيها سِفرٌ لكاتب كلاسيكي، فيكتور هوغو، بلزاك أو بودلير، وإذا كنت كاتبا فأنت تحظى بالاحترام، من المطار، وبين الجيران، وصولا إلى آخر بار، وفي المعرض يصطف مئاتٌ ابتغاءَ توقيعك.
أقول هذا، وأنا سعيد بأننا نحن العرب نلتحق تدريجيا بالشعوب التي تُولي للكتاب الأهمية وترى فيه علامة تقدم ومدنيّة، بل نحن إنما نستأنف ما كنا عليه في ماض تليد، وهذا ما جدد اقتناعي به حضوري أخيرا في معرض الكتاب الدولي بالرياض، وطرد ذلك الشؤم الذي تنعَب به بوم وغربان من أننا لسنا أمة قارئة وإحصائيات اليونسكو (كذا) تضعنا في درَك أسفل من مراتب القراءة في العالم، ومثل هذا مما هو مقلق لا شك، ويرمي به زعما الناشرون العرب أنفسهم في وجه الكتاب فيطفؤون في نفوسهم جذوة الكتابة، بينما وهم يدّعون بوار هذه البضاعة نراهم يتكاثرون كالفُطر، أيُّ مفارقة وتدليس هما، وأنا عائد من المعرض السعودي، أكبر سوق سنوي للكتاب وأوسعه، رأيت وسمعت وتفطنت وتدبّرت ولي كلام.
4
ففي مساحة شاسعة بالأرض الجديدة المسماة (واجهة الرياض)، حيث مبان وأسواق هائلة جديدة، انتصبت سرادقات ضخمة لمعرض الكتاب، بمشاركة ما يربو عن ألفي دار من العالم العربي أساسا وبعض التمثيليات والمؤسسات الأجنبية، وابتداء من افتتاحه في 28 من الشهر الماضي إلى الثامن من الجاري، كنت ترى الآلاف تتوافد من الحادية عشرة صباحا إلى منتصف الليل بدون انقطاع دليل تعطش للقراءة بلا جدال. وفي تصميم هندسي بديع وتوزيع دقيق ما أمكن توزعت دور النشر تمشي أمامها وبينها وأنت تتجول في مدينة صغيرة بمختلف المرافق، وتنتقل بين أنواع من الاختصاصات والمعارف والآداب والفنون عليك أن تسير بتؤدة كي لا تتيه ويصعب مع الإشارة العودة إلى دار زرتها لكثرتها حد الإفراط، منها ما يشبه الدكاكين، فهذا التكالب على النشر بقدر ما يُفرح يثير الاستغراب، خاصة والنشر مع الكسب رسالة وهوية، لا يفطن إليهما إلا قلة، لا غرابة أن تجد عديد باعةٍ الكتابُ والبطاطسُ عندهم سيان، مقابل قراء تراهم متطلبين حقا لا عابرين يتنزهون بلا طائل.
5
مما هو محمود في معرض الرياض، ودليل تغير اجتماعي بارز الإقبال منقطعُ النظير للمرأة، رأيت النساء هنّ أغلبية الزائرات للأروقة والمقتنيات، عارفات لما يردن وحاملات لوائح، يجادلن في الكتاب يردن التأكد مما بين أيديهن لحدّ الإحراج، منهن من تشترط حضور الكاتب، وهذا شيء عجب، ولكنه طريف. سمعت من يفسّر إقبالهن بفراغهن في البيوت، وهو تفسير ذكوري مسفّ، ولا يعني كذلك أن الرجال لا يقرؤون. وفي المجمل ثمة خصوصية محلية لا تخطئها العين، أبرزها بعد ما ذكرنا ولادة دور نشر وطنية متعددة الاهتمام، بصيغ عصرية يقودها شباب ذوو نظرة مستقبلية مختلفة عن الدور التقليدية، وعينُهم خاصة على الأجيال الصاعدة، وهي ظاهرة تشمل بلدان الخليج كلها، لا أستغرب أن منطقتها ستستغني عن منتوج البلدان الثقافية المركزية سابقا، بينما بيدها المال والجوائز وحوافز لجذب وتعويض المؤلف.
6
فإن سألتني ما هو المنتوج الأشدّ رواجا في معرض الرياض الذي قلت إنه يموج بالعارضين والكتاب العرب وأبناء الأرض ممن لقوا عناية مميزة بتخصيص منصات لتوقيع أعمالهم، أجيبك تقريبا ببداهة، إنها الرواية أمّ الأجناس الأدبية اليوم، تطبعها جميع الدور بلا تمييز، وأضحى كل من عنده حكاية ينفق عليها، مما خلط الحابل بالنابل، ومنها المترجَمُ بلا حصر يتنافس عليه الناشرون ويصعب تقدير قيمته غير أنه بضاعة رائجة لا تكلف غالبا حقوق التأليف الضعيفة أصلا. تليها الدراسات النظرية في الإنسانيات واللغويات والإسلاميات، وهذه الأخيرة ضمن التراثيات أقل حضورا قياسا بالحديث والجديد من كل شيء. تحولٌ لافتٌ هنا رصدناه في برنامج الندوات الثقافية الموازية طيلة أيام المعرض، مثلت الرواية موضوعها الأول لدرجة بَزّت بقضاياها وكتابٍ ونقاد بارزين حضور تونس الضيف الرسمي لهذا العام، إلى جانب مسائل في الشعر واللغة والفنون، وجلسات حوار متفتحة وعروض فنية مبهجة، كله بتأطير محكم يُشرِّف أهل الدار والمدعوين من العالم العربي قاطبة ومن عواصم أجنبية.
7
أقول ختاماً إن كل معرض كتاب عربي هو عرسٌ ثقافي بهيج ومجلبةُ فرح في أي عاصمة عربية انتظم، محجٌّ للمعرفة إليه تُشَدُّ الرحال. وأشهد أخيرا أن هذا المعرض بحجم المشاركة المتنوعة فيه شكّل مرآة صقيلة وشاملة لما ينتجه العالم العربي فكرا وإبداعا، لقاءاته فرصة ثمينة جمعت شمل الكتاب العرب بمشاربهم المختلفة في زمن الشتات الفظيع الذي نعيش، أتاحت الحوار وتجديد التواصل بينهم وبين القراء الشريك الدائم، وأظهر بحجج دور المؤسسات الثقافية معزّزا بالمشاركة الحية والنيّرة للأدباء والمفكرين، لإعطاء نفَس جديد لهذه الأمة فتصبح قارئة مُثلى ومنتجةً خلاّقة، تعلو فيها القيم الرمزية ويحظى كتابها بما يليق بشعوب متحضرة فوق سطوة الغرائز والجشع للمال؛ أمّةٌ الكتابُ نبراسُها أمس واليوم وغدا.

الكاتب : أحمد المديني - بتاريخ : 12/10/2022