بأصوات متعددة … ريح البلاد
حســن برما
اختفى دليل الفرح الكبير، لا رجوع لنقطة ما بعد الصفر، احتميت بالذاكرة المتعبة عساها تنقدني من جحيم الزهايمر التقني القاهر، وقنعت بما كُتِب وما هو في حكم اليقين المبجلّ .
فقدت ريح بلادي بضغطة زر، ضاعت تفاصيل الولادة الأولى، حاولت استرجاع صعقة العناق، لكن الذاكرة المتعبة بنت الحرام سرَّبت وقائع تدعو للاستغراب، تشابكت طقوس الغرق الكئيبة مع إشراقات حب دافئة، اختلطت شاعرية الغروب بآيات الضياع المشاع، تقاطعت رعشة الاستذكار بلسعات العقارب السامة، حنين ورهبة وألم وغصات ندم، وفي بلد العَجَب العُجَاب لا تخف ولا تتعجب .
وطقس الوصال لا يتغير، كما لو كنت أستعد لتجاوز الحدود، دخلت بين قضبان القنطرة، خفضت سرعة العبور، بشكل متوقع، التفت يمينا ويسارا، تأملت الانحراف الأسطوري الفاتن لصفحة ماء يبدو أنها لا تتغير، قرأت السلام على النهر الحزين، استنشقت هواء صرختي الاولى ورائحة تراب تتسع معها دروب الحياة ، ومع تنهيدة طويلة من الأعماق ، وجدتني أكلم نفسي ، أقول : « الله الله على ريح بلادي « وأعتذر عن قصر لحظة اللقاء .
بالكثير من العناد الغبي، كطفل شقي لا يهتم، كنت أقنع نفسي بالحقيقة المغلوطة، أنني أسبح في نفس النهر عدة مرات، وأحذر السؤال عن نهاية مصبٍّ اجتمعت فيه كل اللعنات .
مضيت في طريق الحلم الوجودي الواجب، الكف في الكف وصعقة العمر المعلوم تنير حدس العاشق، يتوقف الزمن، تنمحي المسافات، في الأفق وعْدُ الشهيد الخالد وكل العالم لنا دون شرط ولا قيود .
صعدت الدرج الأول ، داعبت وجهي ريحٌ باردة ، سمعتني أكلم نفسي بصوت مكتوم : « هنا نام الحلم البرئ قبل عقود واستيقظ دون منبه ، وعودتي إلى الأصل فرصة لمحاكمة بحار ضيَّع البوصلة حين وثق في جهة تشرق منها الشمس « .
فوق السطح ، على مائدة الحلم ، كأس شاي وكأس قهوة وكتاب ارتعاشات وميلاد مؤجل وأمواج بعيدة لشاطئ صخري استعاد نزوة الهروب .. ونظرة شاردة في ملامح الفرح ومفاجآت الحياة .
عانقني البحر الوفي لمدّ الحياة وجزرها ، اشتعل البركان ، تَبخَّر القرار ، ولم أودع ما ترَسَّب في شاطئ الذكرى من حمم الخيبات المخدومة ونغمة النواح المأثور.
مع كل شهقة حياة ، كنت أفكر فيها صباح مساء ، أترك النفس الأمارة بالشغب منشغلة بتفاهة اليومي ، وكلما سهوت ، أجدها أمام عيني ، تجرني مُسَرْنَماً لبحر الذاكرة ولذات البوح المضمونة .. هي حسنائي ، أهبها كل الوقت حتى تورق وتراقصني كما تشاء .
وللرجاء بوح النداء ، فيا زمان الوصل بالهدير المتكلم ، لا تكلف موجك الحزين بالحفاظ على آثار عبور خاطفٍ ، اترك لليل الخرافة مهمة إنشاد قصيدة الهَجْر وقافية النسيان ولا تسألني عن زبد البحر المصاب بلعنة الرحيل المحتومة !
في حضرته يصير الصمت لحظة تأمل ورغبة مكتومة الحرائق، تشرد العين في أحوال العطش المقدس كي نحتفظ بالكثير من تفاصيلنا الحمقاء ونحتمي بها وقت الحنين ولزوم ما لا يلزم .
دلال الليل يمحوه النهار، وورطة الممحاة أنها تعشقني وتمسح أعطاب خطوطي.. في جديدة الذكرى ، أستعيد صرخة العشق، أغني لرائحة تربة تحييني، أعانق موجة غروب تراقصني، وأقبلها بخشوع صاعق .
لو كنت أعلم حقيقة البركان ما عبرت قنطرة النهر الحزين، انبهرت بالزلزال، وجدتني أهوى الشمال في الجنوب، أتأمل رقصة الغجرية المتصالحة مع حاضرها المكتوب، تكلمني التواءات جسدها بسخاء غير معهود، وأعود لعشق مدينة حلمت بها قبل أن أولد .
الكاتب : حســن برما - بتاريخ : 11/04/2017